محمد سيد رصاص *
يقترح تقرير لجنة بيكر ــ هاملتون استراتيجيا جديدة للإدارة الأميركية، فيها عودة إلى (استراتيجيا مدريد) عام 1991، لما تبنّت واشنطن سياسة، في فترة ما بعد انتصارها في حرب الكويت، اتجهت من خلالها إلى اعتماد (التسوية) مدخلاً إلى ترتيب أوضاع الشرق الأوسط، وما عناه ذلك من اعتراف بالأوضاع القائمة للأنظمة ومجمل أوضاع المنطقة كنقطة انطلاق، ثم بوصفها وضعيات قائمة تُبنى عليها عملية الترتيبات الإقليمية في مختلف المجالات، السياسية والأمنية والاقتصادية.
اتجه بوش الابن نحو استراتيجيا أخرى منذ بداية ولايته عام 2001، وقد كان واضحاً، منذ ذلك الوقت وقبل حدث 11 أيلول الذي سرّع هذا الاتجاه ولم يدشنه كما يظن الكثيرون، اتجاه الإدارة الأميركية الجديدة إلى وضع (التسوية) في البراد وإلى رسم سياسة (العراق أولاً)، مع ترك الوقائع على الأرض الفلسطينية مشتعلة لتنشىء توازناً جديداً بعدما توضحت اللااستعدادية المتبادلة عند الفلسطينيين والاسرائيليين لعملية التسوية من خلال نشوب انتفاضة الأقصى (28 أيلول 2000) وانتخاب شارون (6 شباط 2001).
أتى 11 أيلول ليعطي دفعاً قوياً لاتجاه موجود، كان يرى ومنذ التسعينيات عبر المحافظين الجدد، أن إدارتي بوش الأب وكلينتون ليستا على مستوى الانتصار الأميركي المتحقق على السوفييت، وأن هناك فرصة قائمة لإعادة صياغة العالم من جانب واشنطن: قدّم حدثا نيويورك وواشنطن منصة لتحقيق ذلك، وقد كان واضحاً وعي الإدارة الأميركية لما قاله ديغول في الستينيات بأن «من يسيطر على الشرق الأوسط يسيطر على العالم»، ويبدو أن الإدارة رأت أن السيطرة على العراق، الذي يحوي مكثفاً اجتماعياً لبنية المنطقة ويمثل تاريخه مساراً مفصلياً لتاريخها، هي البوابة من أجل تحقيق ذلك.
ما يلفت النظر، في هذا الإطار، ترافق غزو العراق مع نزعة إيديولوجية تبشيرية بالليبرالية عند الإدارة الأميركية (تذكّر بما كان عند الكرملين حيال الشيوعية) تزامنت مع جوانب برنامجية عندها للمنطقة تمتد من السياسة إلى الاقتصاد والثقافة والتربية، وهو ما أدى بواشنطن إلى احتكاكات وصدامات مع الأنظمة العربية، وخاصة بعدما اتجهت إدارة بوش، وبالذات عبر أركانها المتأدلجين (ريتشارد بيرل، بول وولفوفيتز، دوغلاس فايث)، إلى ربط (الديكتاتورية) بظاهرة (الإرهاب)، واعتبار الأخيرة نتيجة للأولى. هنا أيضاً ترافق ذلك مع إعادة النظر، من جانب واشنطن، في الأدوار الإقليمية القائمة، سواء التي كانت في فترة الحرب الباردة أو في مرحلة (ما بعد مدريد)، وهو ما انعكس وأدى إلى صدام سوري ــ أميركي كبير كان مسرحه الأساسي هو (بيروت 2005-2006)، فيما اتجهت طهران منذ صيف 2005 نحو هجوم وقائي من أجل تثبيت مواقعها (المكتسبة عبر تعاونها مع الأميركيين في أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003 أو التي هي قائمة في لبنان وفلسطين) أو ربما من أجل إنشاء أوضاع تفاوضية تُجبر فيها القطب الواحد للعالم على الاعتراف بالأدوار الإقليمية القائمة، وهو ما فعلته دمشق أيضاً، في مرحلة ما بعد انسحابها من لبنان، عبر استخدام أوراقها القائمة في لبنان وفلسطين والعراق وورقة العلاقة الايرانية ــ السورية.
يأتي تقرير بيكر ــ هاملتون ليميل إلى الاعتراف بالأوضاع الإقليمية القائمة وللتعامل معها، من أجل تمرير استراتيجيا أميركية عبر الوقائع القائمة، في استمرار لنهج (المدرسة الواقعية) التي دشّنها هنري كيسنجر عبر سياسة (الوفاق الدولي) بين المعسكرين الغربي والشرقي، فيما يبدو جورج دبليو بوش، من خلال المؤشرات التي أعطتها إدارته في الفترة الفاصلة عن يوم صدور التقرير، في الضفة الأخرى، مع تأرجح خفيف بين المنزلتين: إذا اتجهت الإدارة الأميركية إلى إفشال (مبادرة عمرو موسى ــ مصطفى اسماعيل) فهذا يعني أنها ستدير ظهرها لتوصيات لجنة بيكر ــ هاملتون وأنها مصرة على جعل لبنان ساحة رئيسية للصراع بين (الدولي) و(الإقليمي) في المنطقة، بينما تعطي تلميحات أولمرت حول السلاح النووي الإسرائيلي أن الأجواء متجهة إلى السخونة مع طهران.
* كاتب سوري