محمد الضيقة *
إن ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة من صدامات واغتيالات وانقسامات، دفع المراقبين والحريصين على القضية الفلسطينية من أبناء الأمة الى التساؤل عن الأسباب التي أوصلت الأمور بين الفصائل الفلسطينية الى هذا المستوى، وعن الأهداف التي يسعى كل فريق من المتقاتلين إلى الوصول إليها.
إن الخلاف السياسي مشروع، وهو أمر ديموقراطي، يسمح لكل فئة سياسية لها وجهة نظر بالعمل على تحقيقها، وأن تستقطب الشارع الى جانبها، وهذا الأمر اعتاده الفلسطينيون منذ انطلاق ثورتهم في ستينيات القرن الماضي، إلا ان ما يحصل خلال السنوات الماضية أو على الأقل الشهور التي أعقبت فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية، أمر لم يعتاده الشعب الفلسطيني في السابق، إذ لا يعقل ان يصل الصراع بين القوى والحركات الفلسطينية الى هذا المستوى مهما كان الخلاف بينهما، وخصوصاً في ظل وجود احتلال ما زال حاضراً في الضفة والقطاع، وفي ظل كلام ليس جديداً على ان العدو الصهيوني يسعى جهده منذ اندحاره عن قطاع غزة، لدفع الفلسطينيين نحو حرب أهلية ترهق كل القوى كمقدمة للوصول الى تسوية وفق الرؤيا الصهيونية والاميركية.
من اللافت أيضاً ان القوى الفلسطينية تتقاتل على سلطة هجينة، سلطة لا حول لها ولا قوة، سلطة أفرزت اتفاقات أوسلو، سلطة أخفقت منذ انبثاقها في تحقيق أي هدف ناضل وجاهد من أجله الفلسطينيون وقدموا آلاف الشهداء وآلاف الجرحى والمعوقين. وبعيداً من المزايدات التي باتت أساس العمل في الساحة الفلسطينية، وبغض النظر عن الاتهامات المتبادلة بين الفريقين المتصارعين واتهام كل فريق للآخر بأنه منخرط في مؤامرة ما، لم نعرف حتى الآن منها إلا تفجير الساحة الفلسطينية وضرب إنجازات سنوات النضال، فإن ما يجري هو الجنون بحد ذاته، إذ لا يعقل ان يصل الخلاف السياسي بين القوى الفلسطينية الى هذا الدرك، في وقت يبحث فيه المواطن الفلسطيني عن مصدر رزق يسمح له بالاستمرار في وطنه فلا يضطر الى الهجرة، وهذا الخيار بات جدياً لدى آلاف العائلات الفلسطينية، الأمر الذي ينافي ما تسعى إليه القوى السياسية، ويحقق هدفاً طالما اسرائيل حلمت بالوصول إليه.
إن أي شعب مستعد للتضحية والصمود من أجل قضية ما، إلا ان الشعب نفسه اذا ما اكتشف ان طليعته غير عابئة بطموحاته وأهدافه، لا يكفر فقط بهذه الطليعة بل يكفر بالقضية كلها، لقد وصل الشعب الفلسطيني الى هذا المستوى، هذا ما تنقله الأحاديث المتواترة من الأراضي المحتلة، وهذا ما يؤكده الحريصون على ألا تضيع سنوات النضال في المنافي وفي الداخل على مذبح الصراع على سلطة هجينة. ان المتربصين بقضية فلسطين كثر والساعين الى تعميم الفوضى في الشارع الفلسطيني كثر أيضاً، أما الحريصون على الثورة الفلسطينية وعلى نضالها باتوا نادرين في ظل الهجمة الاميركية على المنطقة. وبعدما باتت العلاقة مع الكيان الصهيوني وجهة نظر يجاهر بها مروّجوها من دون خوف.
ما لا شك فيه ان جانباً من الصراع الذي يدور بين الفصائل الفلسطينية قد يكون مشروعاً باعتبار ان لكل فريق وجهة نظر حول السبيل لتحقيق الدول الفلسطينية المستقلة، إلا ان هذا الأمر لا يبرر ما يحصل، وخصوصاً في ظل التحولات والتطورات المرتقبة للسياسات الدولية والاقليمية.
لم تحظ القضية بإجماع دولي واقليمي من أجل ايجاد تسوية لها، كما تحظى الآن، وهذا الاهتمام ناتج من إخفاق المشروع الاميركي ــ الصهيوني في الوصول الى غاياته في المنطقة، لكن لا واشنطن ولا الكيان الصهيوني مستعجلين في إعطاء الفلسطينيين حقوقهم وخصوصاً اذا تمكّنوا من شق صفوفهم ودفعهم نحو الاقتتال. وهذا الأمر يجب ان يفرض على حركتي حماس وفتح التوصل الى صيغة للتعايش بانتظار مرور عاصفة التطورات، لا ان يستعجل كل فريق في حرق كل مراكبه ويتوهم أنه قادر على فرض وجهة نظره على الآخر، معتمداً على دعم من هنا ودعم من هناك.
ان استذكار ما حصل بين الرئاسة والحكومة يشير الى ان اسرائيل والولايات المتحدة ليستا بعيدتين عما يجري، وانهما خططا لإيصال الأمور بين الفلسطينيين الى هذه المحطة. فالخطة الاسرائيلية بدأت بعد فوز حماس، والشروط التي وضعها الغرب للاعتراف بحكومتها، اضافة الى الحصار الذي فرض على هذه الحكومة من العرب أولاً ومن ثم الغرب، وقد حاولت حركة حماس فك هذا الحصار وأخفقت، والرئاسة الفلسطينية لم تتحرك في هذا الإطار بل على العكس ساهمت بطريقة أو بأخرى في استمرار الحصار. وبعدما فشل عدوان تموز على لبنان، وفشلت اسرائيل في ضرب المقاومة، وأثناء الحرب بدأ رئيس الوزراء الصهيوني بإرسال إشارات يبدي فيها استعداده للقاء عباس وبدأ يتحدث عن تنازلات مؤلمة في وقت كان فيه الفريقان يجريان محادثات ومفاوضات لتأليف حكومة وحدة وطنية. وبسحر ساحر، توقفت المفاوضات بعدما كانت قد قطعت شوطاً كبيراً وذلك عشية سفر محمود عباس الى واشنطن، وتوقفت كل الاتصالات بين الفريقين وبدأ كل فريق يجمع أوراقه، ويعد العدة كما ظهر لاحقاً للانقضاض على الآخر.
من الواضح ان هناك استحالة لتأليف حكومة وحدة وطنية إذ من الصعب جمع نقيضين في هذه الحكومة، وفي ظل غياب أي مسعى توفيقي ــ أو خطة تزاوج بين المقاومة والمفاوضات كما كان يحصل سابقاً أيام ياسر عرفات ــ تتجه الأمور في فلسطين نحو مزيد من التعقيد، ونحو مزيد من التأزم ونحو مزيد من القتال بين الإخوة، إلا إذا توافق المتصارعون على صيغة مؤقتة تجنّبهم الكأس المر وتساعدهم على تجاوز هذه المرحلة الصعبة.
* كاتب لبناني