غسان طه *
منذ نشأة الكيان اللبناني عام 1920، واجه اللبنانيون مشكلة كيفية بناء هويّة مشتركة تشدّهم بعضهم إلى بعض وتجعلهم أمة واحدة تعيش في دولة، ولا سيما ان التركيبة الاجتماعية اللبنانية تقوم بالأساس على تعدد الطوائف، التي هي سابقة بوجودها على الكيان الذي ضمت مناطقه الى الجبل، وتحمل وجودها الاجتماعي نحو التموقع في إطار هيكلية النظام السياسي الناشئ بفعل دستور 1926 عبر ممثليها في نظام المحاصصة السياسية، فشكل ذلك التاريخ بداية التحول العام لدى الطوائف الى طوائف تحمل المعنى الاجتماعي والسياسي في آن معاً بعدما اقتصر ذلك الوجود على الطوائف المسيحية والمسلمة القاطنة في الجبل عبر التشارك بالمحاصصة في إطار نظام المتصرفية عام 1860. وقد بدا في أول الأمر ان الحقل السياسي الذي يجد تعبيراته في مواقع النفوذ والسلطة ويدفع الطوائف الى الانضواء إليه والتخلي عن بعض طموحاتها، وجد مصلحة الكيان الناشئ آنذاك في عزله عن عمقه العربي.
وفيما بدت السنوات الأولى لتطبيق الدستور وكأن النظام يسير سيراً حسناً غير انه سرعان ما تكشفت الأحداث عن ان الاجتماع الأهلي السياسي عاجز عن تكوين هوية وطنية وقومية واحدة وقد تجلى ذلك في مؤتمر الساحل عبر المطالبة بالانضام الى سوريا ثم تسوية عام 1943 عبر صيغة الوجه العربي للبنان ثم لم تلبث هذه الصيغة ان تفجرت منذ أحداث 1958 بفعل الانقسام اللبناني بين الانشداد نحو الطروحات العربية الناصرية والبعثية وبين التعاون مع الغرب عبر الانضواء إلى مشروع أيزنهاور 1957، ثم ليعود هذا الانقسام مع إقرار اتفاقية القاهرة التي أدخلت المقاومة الفلسطينية الى لبنان لتشهد الأحداث ذروتها مع تفجر الحرب الأهلية عام 1975.
لم تكن هذه الانقسامات لتحمل أبعاداً أساسية وحسب وانما تشكل انقسامات في الرؤى حملت أبعاداً ثقافية وفكرية عبر مجموعة من المثقفين اللبنانيين الذين حاولوا استكشاف هوية مشتركة تقوم بالفعل وتشكل خصوصية لبنانية وتعمل على تثبيت الكيان على انه ليس مجرد كيان هجين وإنما هو متأصل بفعل عوامل تجعل من أبنائه أمة واحدة لها خصوصيتها وهويتها بما لا يعوزها الى التماهي مع الآخرين في أقطار جغرافية محيطة ضمن مقاربة شارل قرم للبنان الأمة بخصوصيته الفينيقية، الى جغرافيا جواد بولس التي تفصل لبنان ببحره وجبله عن سوريا وفلسطين، ثم ميشال شيحا في خصوصية الجبل والبحر الذي يجعله متميزاً بفرادته ووسيطاً بين الشرق والغرب، ثم كمال الحاج الذي تتجلى لديه الأمة اللبنانية من خلال إرادة اللبنانيين في ميثاقهم الذي أنتج هذه الأمة في دولة مستقلة. وفي مقابل الرؤى الكيانية لهؤلاء المثقفين شكلت الرؤية القومية لعدد من المفكرين الحاملين الإيديولوجيا الحزبية التي تنامت وازدهرت منذ خمسينيات القرن العشرين والتي رفضت فكرة وجود هوية لبنانية قوامها الكيان اللبناني على غرار الأمة السورية والوطن السوري الذي تجلى في أفكار أنطوان سعادة، والأمة العربية في إيديولوجيا البعث والتيارات الناصرية التي نادت بالوحدة لكل الأقطار العربية ومنها لبنان بوصفها ناطقة بلغة عربية واحدة.
وقد سلكت رؤى بعض الإسلاميين اتجاهاً مغايراً للاتجاهات الكيانية والقومية نحو دائرة تمتد على مساحة العالم الإسلامي قبل ان تتغير الى الاعتراف بالكيان اللبناني وهو ما حدث لدى الجماعة الاسلامية وغيرها من الجمعيات الاسلامية الأخرى. راح التنظير الكياني والقومي لمحددات الأمة يميل نحو الأفول بعد تراجع الحركات القومية العربية، ثم انعدام أفق الأزمة اللبنانية بفعل الحرب الأهلية التي هضمت فيها الطوائف كل ما أنتجته الايديولوجيا واختزلته في إطار لا يتجاوز الطائفة الحاملة إحدى ألويتها، وكذلك غاب منظّرو الكيانية المثقفون بعد توقف الندوة اللبنانية عن النشاط والتحول نحو كيفية المحافظة على الطائفة ـــ الدولة أو دولة الطوائف في إطار الأحزاب السياسية المتشكلة على أساس لم يخرج عن حدود الطائفة ومنها الكتائب والأحرار والقوات وغيرها...
مع انقضاء الحرب الأهلية وإقرار وثيقة الطائف ثمة مواد دستورية لحظت كل ما من شأنه ان يشكل عوامل تفجّر للصيغة اللبنانية قبل ذلك، وبينها موضوع الكيان، والعيش المشترك، وعروبة لبنان، وهذه المبادئ، المختزنة للتاريخ المشترك في العيش وللجغرافيا بحدودها الحالية، هي من يؤسس لوجود الأمة الواحدة التي تعيش في مدى جغرافي واحد من دون تجزؤ أو امتداد نحو المدى الإقليمي.
كان من مفاعيل دستور الطائف إرساؤه وتكريسه حالة السلم الأهلي والإبانة عن ان الديموقراطية التعايشية للطوائف أشد متانة وأقوى مناعة من الانحلال، لا بل إنها وعبر تعبيرات التعايش في المؤسسات السياسية وفي هيكلية النظام السياسي استطاعت الديموقراطية التوافقية استيعاب الحركات القومية والاسلامية التي سرعان ما غادرت رؤاها وأفكارها وتنظيراتها الايديولوجية والثقافية نحو الانضواء إلى توازنات النظام الناتج من المفاعيل الجديدة لمواد الدستور التي توزع أنصبة السلطة على الطوائف، فنهائية الكيان وعروبته لم تعد محل جدل كبير ليقتصر الأمر على كيفية التسريع في تجاوز الصيغة الطائفية للنظام السياسي.
غياب الشروط الذاتية والاقليمية الذي كان يحول دون تكوين هوية مشتركة يسهم في تأسيسها بالتوازن مع مواد دستورية تكفل الأمر.
فظروف التصدع الذاتي كانت تتمثل باختلال التوازن بين المسلمين والمسيحيين وهو ما تم تجاوزه في مستوياته العليا في دستور الطائف عبر مبدأ المناصفة في المناصب النيابية وإدارات الدولة في الفئة الأولى، وعبر إقرار مبدأ التوازن بمادة دستورية لا تعترف بسلطة خارج العيش المشترك للطوائف بما يعني ان الشروط الذاتية في تشكيل هوية مشتركة قد تم التأسيس له عبر إرساء محدداته التي تقوم على مبدأ العيش المشترك وهو مبدأ إرادوي يدخل فيه التاريخ والجغرافيا والمصلحة المشتركة للطوائف.
وعلى هذا النحو، ثمة مواد دستورية ممهدة لهوية وطنية وقومية موحدة على الأقل من الناحية النظرية، ولكن بالنظر الى حال التصدع في جنبات المجتمع اللبناني يمكن الاستنتاج بأن ذلك لا يعدو ان يكون تأسيساً نظرياً مجرداً من مفاعليه العلمية. فالتوازن الداخلي الذي شكل غيابه أحد أسباب الانقسام الطائفي في المراحل السابقة على دستور الطائف ليس ثمة ما يؤدي الى ضبط إيقاعه في المستويات الإدارية دون الفئة الأولى لأسباب متنوعة بينها بقاء الطوائف مسنودة في انقساماتها في مؤسسات الدولة الثلاث التي تكفل هذه التوازنات والتي يمكن ان تنعكس على المستويات الادارية الوظيفية في حال شعور طائفة ما باختلال التوازنات فيها، ذلك ان المناصب الادارية بمجملها تمثل إحدى آليات العمل في اللحمة الطائفية ومكوناً من المكونات الوشائجية العصبوية فيها، كذلك فإن التوازنات في التمثيل في السلطة التنفيذية يحمل امكانية عودة الانقسام الطائفي حالما يستند الى تكوين أكثرية تقوم على أساس طائفي عمودي بوجه أقلية طائفية ممثلة في السلطة، ما يعني ان التوازنات المستحدثة غير ذات معنى في التأسيس لهوية تتجاوز النطاق الطائفي.
أما في ما يتصل بالهوية بوصفها ذاتاً متمايزة عن الذوات أو الهويات الأخرى فلبنان قد حسم هويته التي ترسم أفق وملامح الانشداد نحو الخارج، إذ هو كيان نهائي من جهة وعربي الانتماء من جهة أخرى، ما يعبّر عن تسوية تاريخية بين جناحي الانقسام الاسلامي المسيحي حيث قبل المسلمون بنهائية الكيان مقابل قبول المسيحيين بعروبته، الأمر الذي يشكل إحدى المناعات التوافقية عبر ضبط التوترات الداخلية حول موضوع الهوية ويساعد في ذلك عامل خارجي يتمثل بتراجع الحركات العروبية الوحدوية المؤدلجة وركون الدولة القطرية في العالم العربي الى وحداتها الكيانية ومقاومتها الدعوات التي تتجاوز الدولة الأمة.
لذلك فإن عروبية الانتماء لا تخرج عن حالة الانشداد الشعوري القائم على أساس التشارك في اللغة العربية وهو ليس محل جدل كبير بمقدار ما يطرحه مفهوم العروبة على المستوى الوظيفي للكيان ودوره على المستوى الاقليمي والعالمي والذي يمكن ان يعيد طرح مفهوم الهوية وتجسداتها على بساط البحث بين اللبنانيين، فماذا يمكن ان تعني على المستوى الوظيفي هذه العروبة اللبنانية تجاه مقتضيات الصراع العربي الاسرائيلي، ولا سيما انه لم يعد ثمة إجماع لدى الكيانات العربية القطرية منذ اتفاقية كامب ديفيد ثم دخول مشروع التسوية الذي انخرطت فيه معظم الكيانات العربية مع استمرار سوريا والحركات المؤيدة لها في مشروع الممانعة، ما يعني عودة الانقسام بمجاراة العرب سواء في مشروع التسوية أو في الممانعة، وإن اتخاذ لبنان سبيل الحياد تجاه هذه القضية المطروحة لا ينزع أسباب تفجر موضوع الانتماء في مستوياته الداخلية ذلك ان الحياد يبقى مشروعاً يفتقر الى الكثير من جدوى الالتزام به على الأقل من ناحية عدم قبول الدولة الغربية السائدة في مشروع تكوين هوية شرق أوسطية لشعوب المنطقة التي لن تدخر أية إمكانية للضغط على بلد صغير كلبنان للانخراط فيها.
وفي حال نجاح مشروع بناء هوية شرق أوسطية سوف تطرح التوترات الداخلية من جديد، إذ ليس في استطاعة لبنان سوى التأثر بما يدور حوله من مشروعات مناهضة لهذا المشروع الاقليمي، وكذلك الشرق أوسطية بوصفها أحد مكونات النظام العالمي الجديد سوف تؤدي كما في يوغوسلافيا السابقة والعراق وأفغانستان والسودان الى بروز الحساسيات التكوينية للإثنيات والطوائف واستثمارها في تعضيد الوشائجية في مقابل هوية مائعة تعمل على استيعابها في إطارها وهو ما لا يستطيع لبنان تحمله.
* كاتب لبناني