خورشيد دلي*
لم تكن العلاقات الأميركية ــ السورية جيدة طوال العقود الماضية، فباستثناء السنوات الأولى لحكم الرئيس جيمي كارتر وخاصة خلال قمته في جنيف مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في أيار 1977 واتفاق الجانبين على حل قضية الشرق الأوسط قبل ان يصل الليكود بزعامة بيغن إلى السلطة في إسرائيل ويسد الطريق في وجه كارتر الذي اضطر إلى التنازل عن سياسته تجاه الشرق الأوسط واللجوء إلى توفير الغطاء لإسرائيل بعدما ضغطت عليه الأخيرة وهددته بكشف الاتفاقات السرية... باستثناء هذه الفترة خضعت العلاقات بين واشنطن ودمشق لقاعدة مرت بمراحل عديدة اتخذت مجموعة من العناوين تبعاً للظروف المرتبطة بالاستراتيجيا الأميركية تجاه الشرق الأوسط، وفي قراءة عناوين هذه المراحل يمكن التوقف عند ما يلي:
1 ــ مرحلة ما بعد 1977 إلى نهاية حرب الخليج الأولى عام 1991: في هذه المرحلة وُقّعت في آذار عام 1978 معاهدة كامب ديفيد من جانب كارتر وبيغن والسادات، وفيها تم الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران عام 1982 والتوقيع على اتفاقية 17 أيار ... وفيها أيضاً فُرض حصار أميركي محكم على سوريا التي خسرت خلالها حليفها الاتحاد السوفيتي الذي انهار مع مطلع التسعينيات من دون حروب.. في جميع هذه المحطات والانعطافات كانت السياسة السورية تتحرك على جبهتين متكاملتين، جبهة التفاوض من أجل الدور الإقليمي وجبهة التمسك بالحقوق وعدم التفريط بها مهما كانت الضغوط والحصار والتهديدات.
2 ــ مرحلة ما بعد حرب الخليج الثانية إلى لحظة ما قبل أحداث الحادي عشر من أيلول: فيها اتسمت العلاقات الأميركية ــ السورية بالتجاذب على قضايا الشرق الأوسط، ففيها جرى اتفاق الطائف في شأن لبنان وانضمت سوريا إلى التحالف الدولي ضد نظام صدام حسين بعد غزوه الكويت، ومن ثم عقد مؤتمر مدريد للسلام ولاحقاً جولات المفاوضات السورية ــ الإسرائيلية وصولاً إلى قمة الرئيسين الأسد الأب والأميركي بيل كلينتون في جنيف. في هذه المرحلة يمكن القول ان السياسة الأميركية تجاه دمشق كانت على شكل اعتراف أميركي بأهمية الدور السوري إزاء قضايا الشرق الأوسط بينما سوريا كانت تستخدم التكتيك والاستراتيجيا معاً لتحقيق مثل هذا الدور المنشود في مواجهة إسرائيل وسياسات بعض الدول العربية التي انخرطت في اتفاقات سلام مع إسرائيل.
3 ــ مرحلة ما بعد الحادي عشر من أيلول: في هذه المرحلة شهدت المنطقة تطورات خطيرة، ففيها غُزيت أفغانستان واحتُل العراق واغتيل الحريري وصدر القرار 1559 الذي كان بمثابة المحك الذي دفع بسوريا إلى سحب جيشها من لبنان.. في هذه المرحلة وصلت العلاقات الأميركية ــ السورية إلى أسوأ مراحلها إلى درجة ان دمشق باتت على قناعة تامة بأنها مستهدفة كنظام، ومع الزيارة الشهيرة لوزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول إلى دمشق وطلباته المعروفة (حماية الحدود مع العراق ــ وقف دعم حزب الله وحماس ــ ....) انتقلت العلاقات بين الجانبين من مرحلة التجاذب إلى الابتزاز والإملاء، فلم تعد واشنطن معنية بما كانت تعده سوريا شؤوناً إقليمية تمس أمنها الوطني والقومي، وانطلاقاً من سياستها المعروفة في هذا المجال، ووفقاً للسياسة الأميركية الجديدة القادمة مع إمساك المحافظين الجدد قرار البيت الأبيض، فإن السياسة السورية السابقة باتت تشكل تدخلاً في شؤون الجيران، إذ ليس من حقها حتى إبداء الملاحظة تجاه السلوك الأميركي في العراق مع انه احتلال لبلد جار كانت دمشق تعده عمقاً استراتيجياً لها في الصراع مع إسرائيل، والملف اللبناني برمته أصبح ورقة للضغط على دمشق حتى بعد الانسحاب السوري من لبنان، والأخطر بالنسبة إلى دمشق هو ان الصراع مع إسرائيل خرج عن كونه مرتبطاً بغياب السلام إلى الحديث الأميركي ــ الإسرائيلي عن ان مرحلة ما بعد احتلال العراق واغتيال الحريري تجاوزت هذه المعادلة.. باختصار كانت الإدارة الأميركية تريد من النظام السوري الانكفاء نحو الداخل والدفاع عن نفسه عند أسوار دمشق لا أكثر. سوريا وفي مقابل هذه الهجمة عملت على مستويين: الأول، الحرص على استيعاب الهجمة الأميركية بأقصى ما يمكن من دون تقديم تنازلات في الجوهر. والثاني، تقوية مواقفها الإقليمية من خلال تقوية العلاقة مع إيران ودعم خط المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين لقناعتها بأن ذلك الأسلوب العملي لإفشال الزحف الأميركي في اتجاهها، ويبدو ان هذه السياسة وبالتعاون مع الحلفاء نجحت في إيجاد واقع سياسي جديد في المنطقة ولا سيما في العراق ولبنان.
4 ــ مرحلة ما بعد هزيمة الجيش الإسرائيلي في لبنان بعد 12 تموز: مع الإقرار بأن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان كانت حرباً أميركية بامتياز، فإن فشل هذه الحرب كان بمثابة بداية مرحلة جديدة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط وخاصة بعد المتغير الداخلي الأميركي المتمثل بفوز الديموقراطيين في انتخابات الكونغرس وانكفاء المحافظين الجدد وسط تزايد حدة الانتقادات لسياسة إدارة بوش على وقع فشلها في العراق.. مع هذه المعطيات الجديدة لم تعد السياسة الأميركية تجاه سوريا تستهدف النظام بل وبخجل تغيير السياسات، وأحياناً إشراك سوريا وإيران في إيجاد حل للأزمة العراقية بعد تقرير لجنة بيكر ــ هاملتون، وبات الحديث على المستوى الأميركي والأوروبي ينتقل من الاحتواء المزدوج (سوريا وإيران) إلى الانخراط المزدوج. ومع وصول الأمور إلى هذه النقطة من الشلل الأميركي ــ الإسرائيلي في المنطقة، من الواضح ان دمشق تغمرها سعادة كبيرة وبدأت تلتقط أنفاسها التي كانت تعيش على إيقاع المتغيرات من حولها وخاصة في ظل ما يجري في العراق ولبنان.
من الواضح، ان سياسة واشنطن تجاه دمشق تخضع لقاعدة دفع الاستراتيجيا إلى فرض التكتيك، وهي (الاستراتيجيا) تنحو منحى الاستهداف والاحتواء أو الدفع في اتجاه الانخراط في ظروف الأزمة ودفع الخطوات الاستراتيجية إلى أرض الواقع، بينما تدير دمشق المعركة بعقلية وضع التكتيك في مواجهة الاستراتيجيا الأميركية لإفشال الأخيرة، منطلقة من قناعة ثابتة بصحة سياستها الأقرب إلى حقيقة قضايا المنطقة وفي الوقت نفسه مراهنة على ان عامل القوة وحده لا يمكن ان يقدم حلولاً لمشكلات معقدة ومتشعبة كتلك المتفجرة في الشرق الأوسط، وفي كل هذا تدرك دمشق أهمية الحفاظ على إبقاء الخطوط مع الإدارة الأميركية حتى لو بطريقة الحفاظ على (شعرة معاوية) لقناعتها بدور القوة العظمى للولايات المتحدة في عالم اليوم. والسؤال الذي يطرح نفسه مع (الفشل) الأميركي في العراق.. وما يجري في لبنان: هل في مساحات السياسة ما قد يعيد ترتيب العلاقات بين دمشق وواشنطن من جديد؟ سؤال قد لا تجد المؤشرات الكافية للإجابة عنه إيجاباً إلا ان منطق السياسة يستدعي التفكير فيه وخاصة مع توالي زيارات عدد من أعضاء الكونغرس الأميركي دمشق وحديث هؤلاء عن ضرورة أخذ الإدارة الأميركية بتوصيات لجنة بيكر ــ هاملتون.
*كاتب سوري