إيلي نجم *
مع المسيحيّة، عبرت البشريّة، في إطار مقاربتها الألوهة، إلى دائرة العقلانيّة حيث انبرى الإنسان، وكان الله قد «خلقه على صورته ومثاله»، يتصوّر الله من حيث هو لوغُس (logos) أي عقل (ratio) وكلمة (verbum).
في القرن الثاني بعد المسيح، أعلن يوستينوس (100-167)، الفيلسوف والشهيد، أنّه لم يتنكّر للفلسفة قطّ حين تحوّل إلى المسيحيّة، إنّما هو لم يغدُ فيلسوفاً حقّاً إلاّ حين تحوّل إلى المسيحيّة.
وفي نهاية القرن الرابع بعد المسيح، قطع القدّيس أوغسطينوس (354-430) بأنّ المسيحيّة تندرج في خانة «اللاهوت الطبيعيّ»، وفقاً للتمييز الشهير الذي كان قد أقامه وارّو Marcus Terentius Varro بين اللاهوت الميتيّ أو الأسطوريّ theologia mythica واللاهوت المدينيّ أو الاجتماعيّ theologia civilis واللاهوت الطبيعيّtheologia naturalis.
في غضون ذلك، ارتفعت أصوات تطالب بقطع الطريق على إمكان زجّ العقل في نطاق عمل الإيمان: «credo quia absurdum»، بحسب ما نُقِلَ عن ترتوليانوس (وقد يكون هذا القول قد نُسِبَ إليه خطأً) الذي قال أيضاً ما حرفيّته: «ليس من أمر مشترك بين أورشليم وأثينا».
إنّما قبل ذلك، كان القدّيس بولس قد جادل «بعض الفلاسفة الأبيقوريّين والرواقيّين» الذين كانوا يتوافدون إلى الأريوباغوس، وهو التلّ الذي كان يجتمع على قمّــــــــته مجلس مدينة أثينا (أعمال الرسل 17: 16-34). وقد سأل بولس في صدد هؤلاء: «ألم يجعل اللهُ حكمةَ هذا العالَمِ جهالةً؟» (رسالة بولس الأولى إلى أهل قورنتس 1: 20).
ومهما يكن من أمر، فإنّه لا يسعنا أن نرفع الصلاة إلى إله تقصر معرفتنا به على تناولنا إيّاه بالتفكّر، إن لم نقل إنّه لا يسعنا أن نتناوله بالتفكّر وحده. وعليه، فالإله ليس عقلاً ratio وحسب، إنّما هو أيضاً وخاصّة كلمة verbum، علماً أنّ مفهوم اللوغُس اليونانيّ يتضمّن في معانيه الكثيرة معنيَيْ العقل والكلمة. ولعلّ ما ورد في إنجيل يوحنّا المكتوب أصلاً باليونانيّة ولا سيّما في النسختين اللاتينيّة والعربيّة يؤكّد هذا المعنى الثاني: «في البدء كان الكلمة logos أو verbum ...» (يوحنا 1: 1).
فالإله الخاصّ بالإيمان المسيحيّ هو، بفضل كلمته التاريخيّة، يسوع المسيح، إلهٌ دينيّ. ولئن كان دينيّاً، فذلك يعني من جهة أولى أنّ يسوع المسيح هو الديّان الذي سوف يدين البشر في الآخرة على ما عملوه في الدنيا (متّى 25: 31-46). ذلك لأنّ الآب جعلهم أحراراً بكلمته، وبكلمته كلّمهم، تلك «الكلمة (الذي) صار جسداً» (أو «لحماً»، على ما وَرَدَ في الكتابات العربيّة المسيحيّة القديمة) (يوحنّا 1: 14)، وهو الذي أشار عليهم، في حياة يسوع المسيح الزمنيّة وموته على الصليب، ما ينبغي عمله وما ينبغي الامتناع عن عمله. وذلك يعني، من جهة ثانية، أنّ الآب هو المَدين الذي سوف يستوفي في الآخرة ما سلّف البشر في الدنيا (متّى 25: 14-30)، ذلك لأنّه سلّفهم ابنه الوحيد الذي أتاح لهم، بل ألحّ عليهم مراراً وتكراراً أن يفوا، في الدِين وبه، الدَين الذي استحقّه عليهم...
وفي ما يتعلّق بالتجسّد أو التأنّس، فلنسمع ما يقوله القدّيس بولس في رسالته إلى أهل فيلبّي (2: 6-8): «فمع أنّه (يسوع المسيح) في صورة الله، لم تعدّ مساواته لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته متّخذاً صورة العبد، وصار على مثال البشر، وظهر في هيئة إنسان، فوضع نفسه (أي تواضع)، وأطاع حتّى الموت، موت الصليب». أمّا مفهوم «التجرّد من الذات»، فإنّه يقابل في اليونانيّة، اللسان الذي صاغ فيه «رسول الأمم» رسائله، مفهوم kénôsis ويعني إفراغ الذات، بدافع المحبّة التي يكنّها الله لبني البشر. وليست التضحية بالذات تخلّياً أو تنازلاً عن الذات الإلهيّة أو إلغاءً لها بدليل القيامة، القيامة التي لولاها، كان «الإيمان باطلاً»، على ما ذهب إليه القدّيس بولس، إنّما التضحية بالذات بلغت أوجها في الموت على الصليب، الصليب الذي فيه وبه أخذ المصلوب على عاتقه الشرّ والموت، ثم أعتَقَنا منهما بقيامته المجيدة.
وعليه، فإنّ الله، من حيث هو عقل وكلمة، هو أيضاً محبّة. وهذا يعني أنّ ما يربطنا به تعالى هو رَجع المحبّة التي يكنّها هو لنا، تلك المحبّة الإلهيّة التي تجمع الخالق إلى مخلوقاته وتجعله يعمل لخلاصهم، وهي هي التي تجمع البشر بعضهم إلى بعض. الواقع أنّ المحبّة agapè أو caritas تدلّ، على نحو عميق وجوهريّ، على محبّة الله للبشر ومحبّة البشر لله ومحبّة البشر بعضهم لبعض.
في ما يتعلّق بمحبّة الله للبشر، فالإشارات عديدة: متّى 5: 45، 18: 12-14، وفيها أنّ الله يكنّ للمخلوقات محبّة أبويّة: إنّه والد الابن الشاطر: (لوقا 15: 11-32). وبالنسبة إلى القدّيس بولس، فإنّ الآب هو إله محبّة (رسالة بولس الثانية إلى أهل قورنتس 13: 11) و«إنّ الذي لم يضنّ بابنه نفسه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعاً، كيف لا يهب لنا معه كلّ شيء؟» (رسالة بولس إلى أهل روما 8: 32).
أمّا محبّة البشر لله، فإنّها كبرى الوصايا وأُولاها، وفيها يقول يسوع المسيح للفرّيسيّ الذي سأله ليحرجه: «يا معلّم، ما هي الوصيّة الكبرى في الشريعة؟ ــ أحبب الربّ إلهك بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ ذهنك. تلك هي الوصيّة الكبرى والأولى» (متّى 22: 34-38).
وتبقى محبّة القريب، فهي الوصيّة الجديدة (يوحنّا 15: 12 و17) التي هي شبيهة بالوصيّة الأولى (متّى 22: 39)، وهو أمر يثبته مثَل السامريّ الشفيق (لوقا 10: 29-37). الواقع أنّ محبّة القريب هي دينيّة، ذلك لأنّها تستلهم محبّة الله للبشر وتعكس عمل الله في الإنسان. يقول القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس، (13: 1-13): «ولو كان لي الإيمان الكامل فأنقل الجبال، ولم تكن لي المحبّة، فما أنا بشيء...»، ذلك لأنّه «تبقى هذه الأمور الثلاثة: الإيمان والرجاء والمحبّة، ولكنّ أعظمها المحبة».
يتبيّن ممّا تقدّم أنّه لا يوازي أوّليّة اللوغُس في المسيحيّة سوى أولويّة المحبّة.
* كاتب لبناني