حسن جابر *
شهد عقد التسعينيات من القرن الماضي سلسلة من النهايات كانت كل واحدة منها ترمز الى سلسلة إخفاقات توّجت بحدوث انعطافة كبيرة كانت كفيلة بوضع حد لمرحلة معيّنة. هكذا تمّ تقويم ما عرف بـ«نهاية الإيديولوجيا»، وكذلك «نهاية التاريخ» مع السقوط المدوّي للاتحاد السوفياتي الذي حمل معه تداعيات فكرية وسياسية غير مسبوقة، وقد سبق هذه النهايات جملة إعلانات «موت» فكانت كل واحدة تعبّر أيضاً، عن كشف جديد أو تطوّر علمي غير مسبوق، كـ«موت الكاتب» و«موت الإنسان». فالأول كان خلاصة خروج علميْ النص والتأويل الى الوجود، أعطى القارئ حق الكشف عن المعنى أو تقديم فهم جديد، الأمر الذي أفقد الكاتب ومقاصده تلك الخصوصية التي توهّمها السابقون، أما الثاني، أي موت الإنسان، فقد أُطلقت مقولته بعد شيوع الكلام على البنيوية التي ألحقت الإنسان بالمناخات التي أوجدته، ما يعني أنه مجبر على الفعل والترك لأنه يخلق وهو محاط بجملة التزامات يصعب الوثوب فوقها وتجاهلها.
والجديد، اليوم، هو إعلان نهاية المثقف حتى لا نقول موته، وذلك لاعتبارات كثيرة نزعم أنها جديرة بالتأمل والبحث:
أ ــ لم يكن المثقف الممتهن لفعل القول، يوماً، صانعاً للحدث، على رغم الوهم الذي يسكن مخيلته، فهو كان ولا يزال متلقّفاً له يسارع الى قراءته وتحليله انطلاقاً من أدوات معرفية، لا نجرؤ على وصفها بأنها حيادية، وغالباً ما تكون محتفّة بمحرضات إيديولوجية تزيّن له اتجاهاً محدّداً للمعنى، فيباشر جرّ القرائن والأدلّة التي تتوافق وثوابته العقدية أو الإيديولوجية الى حيث يشتهي ويرغب، ولهذا نلمس التباينات في التحليل والتفسير والفهم، والكل يعلم أثر هذا الاختلاف في إضعاف الموقف وأحياناً بعثرة مفاعيل الحدث. انطلاقاً من هذا التوصيف غدا المثقف مجرد متلقٍّ للجاهز من الفعل، يتنافس مع غيره في صياغة الأوصاف والعوارض من دون أن يكون له حتى مجرد المشاركة في الفعل.
ب ــ العلاقة الملتبسة بين المثقف والسياسي. فالأول يقدّم نفسه كمؤهّل لقيادة المجتمع انطلاقاً من تصور مسبق، لا ندري كيف أقنع نفسه به، وهو أنه الأجدر في قيادة المجتمع وفي اجتراح الحلول لمشاكله، مع العلم أنّ الفهم العلمي لتلك المشاكل لا يتأتى إلاّ بالانخراط العلمي والفعلي في مختلف فعاليات الممارسة اليومية، وهذا الأمر لم يحصل يوماً، بل على العكس، نلحظ وجود فجوة كبيرة بين استخلاصات المثقف والهموم اليومية للناس المنخرطين في عملية الإنتاج والمنفعلين بالنصَب والتعب والمخاطر. وإزاء هذا الواقع، يستحيل على المراقب من بعد أن يفقه الحلول خلافاً للمنخرط، عضوياً، في الحراك اليومي، وهذا الأمر يختلف البتة مع السياسي الذي غالباً ما يخرج من صفوف الفئات المنتجة مزوّداً خبرات واسعة، ذات طبيعة عملية لم تتوافر للمثقف الغارق في التصورات المجرّدة.
من هنا نفهم أسباب التباين في الرؤية والفهم بين المثقف والسياسي، الذي يصل الى حدود الالتباس في الدور. فالسياسي يعتقد ان المثقف مجرد أداة يمكن موضعتها في آلته الفعّالة والحيوية، وهو عندما يستدعي المثقف يعلم مسبقاً ان الأخير أعجز من أن ينافسه، فيوظف خطابه في مشروعه السياسي من دون وجل، والتجربة تثبت ان تقديرات رجل السياسة غالباً ما تكون صحيحة ودقيقة، فالمثقف في علاقته مع «الزعيم» أو «القائد» ينقلب الى ما يشبه الموظف أو الكاتب للخطب والكلمات، على رغم توهم الأول أنه قادر على قلب الأدوار وبالتالي تمكّنه من توظيف السياسي لمصلحته. وحتى لا ينحصر الكلام في إطار التجريد، نحيل القارئ على وقائع لا نهاية لها، بدءاً من لبنان حيث يصطف المثقفون خلف طوائفهم أو مصالحهم الضيقة فيتحيّز كل مثقف للخطاب الذي يداعب شغاف القلب، ويندر ان يتحرر نص أو موقف من إكراهات العصبية بشقّيها الطائفي أو الايديولوجي، والحال عينها نلحظها في الكيان الاسرائيلي الذي لا تتجاوز أصوات المعترفين بالحق الفلسطيني عدد أصابع اليد الواحدة، ناهيك من النخب المثقفة في أوروبا وأميركا.
ج ــ إفلاس الخطاب الفكري الذي أطلقه العقل الغربي في القرنين الماضيين والذي نادى بالحقوق الطبيعية للإنسان، التي تعني، في دلالتها، حقوق عموم أفراد الانسان في التاريخ، من وُلد ومن سيولد، وقد تبدّى هذا الإفلاس في تواطؤ العدد الكبير من المثقفين مع حكوماتهم خلال الحقبة الاستعمارية، والاستثناءات القليلة التي نجحت في تجاوز المعوق القومي والإيديولوجي، بقيت عاجزة، الى اليوم، عن زحزحة القرار السياسي الرسمي في أوروبا وأميركا الذي استباح خيرات الشعوب وداس على حقهم في العيش أحراراً ومستقلين، فإذا كانت الأطنان من الكتب التي تناولت الانسان وحقوقه وكرامته وحريته لم تنجح في ثني الحكومات المستعمرة عن قراراتها تجاه العالم الأقل نمواً، فما بالك بحفنة من المثقفين في بلادنا الذين نجحوا، الى حدود بعيدة، في ان يكونوا مجرد صدى أو مقلّدين للآخرين؟!
د ــ عجز المثقف غير العضوي، ونموذجه هو الغالب في أوطاننا، عن إدراك الفارق بين المثال المتخيل والواقع، ولأنه عاجز، يتوهم حلولاً لمعضلات تمت حياكتها من خيوط الأفكار المجردة البعيدة من صراع المصالح والمفاسد في العلاقات بين الدول، ظناً منهم ان هذه الأفكار قابلة للتسييل. والمأساة، في هذا الواقع، أن يصرّ البعض على صدق مدّعاه بعد سلسلة طويلة من الإخفاقات. وهنا يحضرنا شاهد من «فيلم»، يجسد هذه المأساة بكل فواجعها، بعنوان «To be There»، يصوّر فيه المخرج مأزق حدائقي لم يتسنّ له رؤية الواقع إلا من خلال التلفاز والـ«Remote Control» وعندما اضطر الى ترك عمله والخروج الى الواقع المعيوش توهم أنّ في إمكانه تغيير صورة الحياة بصخبها من خلال جهاز التحكم عن بُعد، وعندما عجز عن تغيير الصورة استفاق من وهم التطابق بين المتخيل والواقع.
هذه الأسباب وغيرها الكثير تدل، بما لا يدع مجالاً للشك، على أن المثقف ليس سوى مخلوق واهم يكاد يقتله حلم التمايز والتفوق والحقيقة، فيما الحياة في مكان آخر، أليس هذا كافياً للحكم عليه بالانتهاء والتلاشي؟
* أستاذ جامعي