نزار صاغيّة *
تتولى الدراسة التالية تقديم جردة قانونية للمنجزات التشريعية لمجلس النواب اللبناني على مدى سنة (من تموز 2005 إلى تموز 2006)، حيث يخلص صاحبها الى نتائج مهمة ومثيرة يتبين معها حجم الفشل الذي يصيب السلطة التشريعية في لبنان نتيجة الانحياز السياسي الذي يمارسه فريق الأكثرية المهيمن على غالبية مقاعد البرلمان.
والأخبار إذ تنشر هذه الدراسة، فذلك اعتقاداً منها بضرورة إطلاع الرأي العام اللبناني على طبيعة أداء ممثلي الشعب تحت قبة البرلمان ومستواه، على أمل أن
يشكل ذلك معطى يستفاد منه على طريق الإصلاح المنشود في مؤسسات الدولة اللبنانية وفي مقدمها البرلمان الذي يفترض فيه أن يمثّل إرادة الناس وتطلّعاتهم.


جردة تشريعيّة للسنة الأولى من برلمان 2005

خلال السنة الأولى من عمره الممتدّة من تمّوز 2005 حتى تمّوز 2006، أقرّ برلمان 2005 79 قانوناً تنقسم الى 36 قانوناً داخلياً و43 قانوناً يجيز للحكومة التصديق على معاهدة أو اتفاق دولي. وما نريده في هذا المجال هو السعي الى تقويم هذه القوانين، أولاً كميّاً من زاوية الجهود المبذولة، وثانياً نوعيّاً من زاوية أهداف المشرّع، وخصوصاً مدى تلاؤمها مع المصلحة العامة.
وبداية، تجدر الاشارة الى أنّ البحث الحاضر ينحصر في الانجازات التشريعيّة للبرلمان، بما فيها القوانين التي رُدّت أو أُبطلت في المجلس الدستوري، بمعزل عن الجهود التي بذلها النوّاب في اللجان التي ينتمون إليها، ولا تشمل القوانين التي أُقرت بعد الحرب وتحديداً خلال شهر تشرين الثّاني الماضي والتي سأتناولها في دراسة على حدة.
الجزء الأول: تقويم كمّي للجهود التشريعية المبذولة
إن أي تقويم لمستوى الجهود المبذولة يفترض التدقيق ليس فقط في عدد القوانين التي أُقرت أو حجمها، إنما أيضاً في نوعها. فمن النافل القول ان القوانين الإجرائية كاستبدال اسم قرية أو تصحيحه أو تمديد العمل بقانون معين تتطلب جهداً تشريعياً محدوداً، بخلاف ما هي الحال عند إقرار قانون بتكريس قواعد تنظيمية أو بإنشاء مؤسسة جديدة، ولا سيما إذا آل الى بت خلافات اجتماعية أو بشكل أعم الى التصدي لتحدٍّ اجتماعي معين. وتظهر مناقشات البرلمان جهداً تشريعياً محدوداً في شأن المصادقة على المعاهدات أو الاتفاقات الدولية، طالما أنها غالباً ما كانت تنتهي الى إقرار مشاريع القوانين كما وردت من دون أي تعديل أو مناقشة. وتبعاً لذلك، سأعمد أدناه الى تقويم مستوى الجهود المبذولة لإقرار القوانين في ضوء تصنيفها وفقاً لنوعها.
ولعلّ أوّل ما نلحظه في هذا الصّدد هو أنّ الجهد التشريعي بدا جدّ مخيّب: فإلى جانب أنّ المعاهدات والاتفاقات الدوليّة (وهي تمثّل غالبيّة القوانين: 43 من أصل 79) لا تفترض أيّ جهد، فإنّ الجهد التشريعيّ في وضع القوانين الداخليّة يظهر هو أيضاً قليل الشأن فور الإمعان في أنواعها. فمن أصل 36 قانوناً، نجد أن:
ــ ثمة 14 قانوناً ذات طابع إجرائي محض. وهي القوانين التي تهدف الى اتخاذ قرار إجرائي محض. وهذا ما نلقاه مثلاً في القوانين الآيلة الى استبدال اسم قرية أو تصحيحه (عدد: 3)، أو الى تقسيم قرية الى قريتين أو الى تمديد حقّ الحكومة في التشريع في المجال الجمركي أو الى تمديد مفعول قانون الإجارة على الإيجارات القديمة أو الى تعديل طابع مختار أو الى إعطاء إيصال لقاء أعمال النشر في الجريدة الرسمية أو الى زيادة عدد لجان الاعتراض على الضرائب أو المناطق التربوية. ولعل أسوأ ما في الأمر اننا نلقى الطابع الإجرائي في القوانين المتصلة بموازنة الدولة والتي أصدرها البرلمان والتي يفترض بها ان تكون القوانين الأكثر تعبيراً عن رؤية الدولة للمستقبل. وهذا ما نلقاه في قانون القطع لعام 2003 (وهو عملية حسابية محض لتنفيذ موازنة 2003) وأيضاً قانون موازنة 2005 الصادر بعد انتهاء السنة المذكورة على نحو يشكل تكريساً لما حصل، وأيضاً قانون زيادة رسم الخيل الى 18 %، أو القانون الآيل الى تطبيق القاعدة الاثني عشرية على واردات عام 2006 ونفقاتها حتى صدور موازنة 2006. وما يزيد الأمر دلالة هو إخفاق الحكومة في إنجاز موازنتي 2006 و2007.
ــ والى جانب القوانين الإجرائية، نجد ان ستة من القوانين الداخلية تهدف ــ ليس الى وضع قواعد أو تنظيمات جديدة ــ إنما الى تعطيل القوانين المعمول بها قبل إقرارها في قضايا معينة. وهذه هي حال قانونيْ العفو في قضايا جعجع ورفاقه والضنية وعنجر وأيضاً قانون العفو من زيادات التأخير والمخالفات وإجازة تقسيط ديون الدولة الناتجة من الاشتراكات الواجبة لمصلحة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وأيضاً قانون تسوية أوضاع السيارات التي أُدخلت الى المنطقة الحدودية أثناء حقبة الاحتلال الاسرائيلي لها، وقانون تعديل المادة 68 من القانون الرقم 171/2000 المتعلقة بانتخاب أعضاء مجلس النواب على نحو يؤدي الى وقف العمل بالحكم القضائي الصادر في حق تلفزيون م. تي. في، وأخيراً قانون تأجيل النظر في المراجعات أمام المجلس الدستوري على نحو يؤدي الى كفّ يد المجلس الدستوري.
وبنتيجة حسم القوانين الإجرائية والمعطّلة للقوانين، ينحصر عدد القوانين التنظيمية بـ16 من أصل 36 قانوناً، علماً أنها هي الأخرى تقبل التقسيم الى ثلاث فئات، وفقاً للجهد التشريعي الذي تتطلبه.
فمن جهة أولى، نجد القوانين الآيلة الى إحياء قواعد سابقة ــ وهي إذاً خلو من أيّ جهد تشريعيّ ــ وعددها ثلاثة وهي تباعاً:
ــ القانون الآيل الى إعادة إحياء بعض مواد قانون 30/7/1984 المتصلة باستبعاد مؤقت لبعض شروط ترقية عناصر قوى الأمن الداخلي.
ــ والقانون الآيل الى إعادة إحياء بعض مواد قانون 16/9/1983 باستبعاد مؤقت لبعض شروط ترقية عناصر الدفاع الوطني،
علماً أن الحكم الذي أُعيد إحياؤه قد طبّق مؤقتاً في الثمانينيات والتسعينيات والآن، لأسباب تتصل على الأرجح بإعادة التوازن الطائفي المفقود في الرتب العليا في هذه المؤسسات.
ــ إعادة إحياء أحد بنود قانون تنظيم القضاء الشرعي السني والجعفري الصادر بتاريخ 16/7/1962 والآيل الى اشتراط حيازة كتّاب أقلام المحاكم الشرعية الجعفرية والسنية (مساعد قضائي) على شهادات في الشرع فضلاً عن اشتراط ارتداء الزي الديني بالنسبة الى المحاكم السنية فقط.
ومن جهة أخرى، نجد القوانين الآيلة الى إدخال تعديلات محدودة لقوانين سابقة، والتي ترشح هي الأخرى عن جهد محدود يقل بقدر ما يقل عدد الأحكام المعدلة. وعدد هذه القوانين هو 6 وسنستعرضها تباعاً في سياق تعداد الأحكام المعدلة فيها:
ــ تعديل مادة واحدة في قانون القضاء العدلي بما يتصل بكيفية تعيين بعض أعضاء مجلس القضاء الأعلى (وهو قانون ردّه رئيس الجمهورية ولم يُعاد بحثه).
ــ تعديل ثلاث مواد في قانون أصول المحاكمات الجزائية بما يتصل بأصول المحاكمة لدى المجلس العدلي.
ــ تعديل مادة واحدة في قانون تنظيم مهنة الوساطة المالية على نحو يؤدي الى إلغاء شرط تملّك لبنانيين نسبة من أسهم الشركات العاملة في مهنة الوساطة.
ــ تعديل مادتين في قانون إنشاء المجلس الدستوري بما يتصل بكيفية تعيين أعضائه.
ــ تعديل فقرة واحدة في قانون موازنة 1981 بهدف تمكين موظفي الدولة من الإفادة من سلف صحيّة إضافية.
ــ وضع ثلاث مواد بهدف تحديد أسس معدلة لمعادلة صف الفرشمن، وذلك بصورة استثنائية ولمرة واحدة، في حال توافر شروط محددة.
أما الفئة الثالثة ــ وهي ربما الفئة التي يفترض ان ترشح عن إنجازات تشريعية مهمة ــ فهي القوانين الآيلة الى وضع قواعد تنظيمية أو إنشاء مؤسسات جديدة أو الى استبدال قوانين سابقة بكاملها أو الى إدخال تعديلات جذرية أو أساسية عليها. وعدد هذه القوانين هو 7 سنستعرضها هنا أيضاً مع تحديد الأحكام التي تضمّنتها إثباتاً لحجمها وهذه القوانين هي:
ــ قانون جديد بتسنيد الموجودات وهو مستوحى من القوانين الغربية في مجال تسهيل معاملات الاقتراض والتمويل التجاريين (48 مادة).
ــ قانون جديد بتنظيم هيئات الاستثمار الجماعي بالقيم المنقولة وسائر الأدوات المالية (55 مادة)، وهو متمّم للقانون السابق.
ــ قانون باستبدال القانون السابق الخاص بتحديد مهمات وزارة البيئة وتنظيمها (13 مادة).
ــ قانون جديد بتنظيم مديرية الضريبة على القيمة المضافة في ملاك وزارة المال ــ مديرية المالية العامة وتحديد ملاكها وشروط التعيين الاضافية لبعض وظائفها (60 مادة).
ــ قانون جديد بإنشاء ميدالية وزارة الداخلية والبلديات وتحديد أوصافها وشروط منحها (5 مواد).
ــ قانون جديد بتنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز وهو يدمج ويعدل قوانين سابقة تنظيمية للطائفة الدرزية (55 مادة).
ــ قانون جديد للاعتراف بشهادات نهاية المرحلة الثانوية الأجنبية للبنانيين ومعادلتها (مادتان).
وتالياً فإن عدد الأحكام التنظيمية الآيلة الى وضع قواعد أو إنشاء مؤسسات جديدة للمستقبل قد بلغ 238 مادة يُضاف إليها 11 مادة تعديلية، وهي تتدنى الى 194 إذا حسمنا منها المواد القانونية المتصلة بطائفة واحدة، ما يعني أن في إمكان كل نائب أن يفاخر بأنه أنجز خلال سنة كاملة ما يقارب «مادة ونصف مادة تنظيمية». وما يزيد الأمر سوءاً أن ما يزيد على نصف حصيلة المواد التنظيمية يتصل بشؤون مالية بحتة (103 مواد)، فيما يتصل ما يقارب نصفها الآخر بتنظيم إداري لبعض مؤسسات الدولة وتحديداً وزارة البيئة ومديرية الضريبة على القيمة المضافة (73 مادة) أو بالتشريفات المتصلة بمنح ميداليات (5 مواد)، وأنها إذاً تخلو من أي بعد اجتماعي.
الجزء الثاني: تقويم الإنجازات التشريعيّة من حيث أهدافها
الآن وقد بيّنت ضعف الجهد التشريعيّ، بقي أن أستخلص توجّهاته الرئيسة. وفي هذا المجال، يظهر أنّ معظم القوانين الداخليّة هدف الى تحقيق أهداف سياسيّة للغالبيّة النيابيّة، وأنه باستثناء أحكام قليلة غالبها يتصل بوسائل مالية، فإن السيّاسة التشريعيّة خلت من أيّ مسعى الى وضع تنظيمات للمستقبل. فكأنّما التغيير الحاصل بعد انسحاب الجيش السوريّ انعكس تشريعاً على صعيد توازن القوى السياسية، بمنأى عن التنظيم الاجتماعي. وهذا ما أبيّنه أدناه.
أولاً ــ في القوانين الهادفة الى تحقيق أهداف سياسيّة للغالبية النيابية:
في هذا المجال، سأستعرض تباعاً القوانين التي هدفت الى تغليب المصالح السياسية للغالبية النيابية. وقد تجلى ذلك في توجّهين اثنين، أولهما المساس بما يشكل دستوراً وقانوناً ضوابط الحكم، وثانيهما اعتماد قوانين المجاملة والمناصرة في دعم الحلفاء.
1 ــ القوانين الآيلة الى المساس بضوابط الحكم والتّشريع:
على هذا الصعيد، نلحظ ان الغالبية سعت مراراً الى تحييد المؤسسات أو القواعد التي من شأنها ضبط سلطاتها. وإذا تجلى ذلك أولاً في القوانين الآيلة الى المساس بمبدأ فصل السلطات، وبالأخص باستقلالية القضاة على نحو يعزّز نفوذ الغالبيّة ويضعها في منأى عن المحاسبة، فإن الأمر بلغ مستوى خطيراً حين وضعت الغالبيّة قوانين تمييزيّة فاقعة وكأنها تعلن بذلك أنها غير معنية بالطابع العامّ للتشريع، أي بما يشكّل الضابط الأساسي له.
أ ــ المساس بفصل السلطات:
على هذا الصعيد، ذهب التوجه أولاً الى استتباع المجلس الدستوري أو شلّه، علماً أن المجلس هو من حيث المبدأ المؤسسة الوحيدة القادرة على تقييد صلاحيات السلطة التشريعيّة.
فما إن أبطل المجلس الدستوري القانون ــ الصادر في الجلسة الأولى للبرلمان الجديد ــ والآيل الى إلزام المجلس الدستوري بإرجاء البتّ في الطعون الانتخابيّة الموجّهة ضد بعض نواب الغالبية ريثما تُعيّن بدائل عن أعضائه المنتهية مهماتهم، حتى أقر المجلس قانوناً جديداًَ يقضي بعزل أعضاء المجلس الدستوري كافة مع وضع آلية جديدة لتعيين البدائل قوامها إخضاع التعيين للترشيح ومن ثم لمثول المرشحين أمام لجان نيابيّة للاستماع إليهم قبل أن يُعيّنوا مناصفة من جانب الحكومة والمجلس النيابي. وعدا أن عزل الأعضاء شكل سابقة جد خطرة وضمن عملياً للغالبية حق تعيين كل أعضاء المجلس الجدد، فإن آلية تعيين البدائل آلت الى فرض صورة لأعضاء المجلس الدستوري مغايرة تماماً للصورة المفترض ان تكون متوافرة لديهم، بموجب الفلسفة الحافزة لإنشائه، ما يشكل ضرباً لأحد أبرز أسس مشروعية المجلس الدستوري واستتباعاً فعلياً ورمزيّاً لقضاته.
فالمواصفات المفترض توافرها لدى أعضاء المجلس هو أنهم حكماء يتحلّون بفعل علمهم ونزاهتهم بصدقية ومكانة ذاتية مكرسة اجتماعياً ومشهود بها من دون الحاجة إلى أي امتحان إضافي. وهذه «المكانة الذاتيّة المكرسة والمشهود بها» ليست فقط مرغوبة بل هي «شرط وظيفي» يقتضي توافره أو أقله افتراض توافره لدى أعضاء المجلس لتبرير تعيينهم في وظائفهم العليا وأبرزها تقويم أعمال المجلس النيابي «الممثّل مبدئيّاً للإرادة العامّة» مع نقضها عند الاقتضاء. وبكلام آخر، إن تمتّعهم بهذه المكانة الذاتية هو شرط للاقتناع بأنهم أهل للتصدي للإرادة العامة في لحظات التيه أو التسلّط الأكثري.
أما وأن القانون قرر إخضاعهم للامتحان ــ فذلك يعني ان تعيينهم ليس إعلانيّاً لتمايزهم وعلوّ شأنهم وأنّ مشروعيّتهم ليست مستمدّة من مكانتهم الذاتيّة، إنما من تقويم النواب لهم ومن إرادة المؤسسات التي هي تختارهم وتصطفيهم. وتالياً، فإن هذا القانون لا يكون فقط قد مكّن الغالبية من اصطفاء قضاتها وحسب، إنما أيضاً من فرض قواعد مشروعية جديدة مفادها أن إرادتها هي مصدر سلطاتهم! الأمر الذي يضعف مشروعيتهم في تقويم توجّهاتها. وعليه، انتقلت الغالبية، بفعل هذا القانون، من مرحلة تعطيل المجلس الدستوري الى مرحلة استتباعه، علماً أنها ذهبت الى حد إعادة إقرار القانون على رغم ردّه من جانب رئيس الجمهورية، الأمر الذي يعبّر عن مدى تصميمها وتصلبها في هذا الصدد.
والى ذلك، نلقى التوجه نفسه في شأن تنظيم القضاء العدلي وإن بدا الأمر أكثر إبهاماً. فعلى خلفية الخلاف السياسي في شأن استكمال تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى المنتهية مدتهم (خمسة من أصل عشرة)، تبنى البرلمان قانوناً بتعديل آلية تعيين هؤلاء. فإذا نصّ القانون الحالي على تعيينهم بمرسوم يوقّعه كل من وزير العدل ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، فإن القانون التعديليّ نصّ على أنّ الخمسة المذكورين يعيّنونهم أقرانهم في المجلس وهم تحديداً الأعضاء الحكميّون فيه (رئيس المجلس وهو رئيس الغرفة الأولى في محكمة التمييز، النائب العام التمييزي ورئيس هيئة التفتيش القضائي)، فضلاً عن العضوين المنتخبين فيه من جانب قضاة محكمة التمييز، على أن يتم التعيين بالغالبية. وهذا الأمر يؤول بالواقع الى إعطاء القضاة الحكميين (وهم الغالبية) صلاحية فرض تعيين سائر أعضاء المجلس، ليشكّلوا معهم ثمانية أعضاء قادرين على فرض القرارات التي يريدونها داخل المجلس، بما فيها إعلان عدم أهليّة القضاة، وتالياً عزلهم من دون مراعاة حقّ الدّفاع عن النفس. وإعطاء الأعضاء الحكميين الثلاثة سلطات واسعة على أقرانهم يؤدي عملياً الى أمرين كلاهما سيئ: الأول أنه يهدد بإخضاع القضاة لهؤلاء وبواسطتهم لمجلس القضاء الأعلى ما يهدد «استقلالية القضاة في محاكمهم» (وهو أساس الاستقلالية) باسم تدعيم «استقلالية القضاء» (!!)، والثاني أنه يفتح أمام السلطة التنفيذية مجالاً واسعاً للتدخل بواسطة هؤلاء الذين هم بالواقع كلهم معينون بمراسيم صادرة عنها، علماً أن هذا التدخل قد يؤدي الى عزل القضاة تماماً كما حصل في شأن قضاة المجلس الدستوري وكما صرح به أعضاء كثيرون في الغالبية النيابية. ويسجل في هذا الصدد أن الغالبية امتنعت عن إعادة طرح هذا القانون بعدما قام رئيس الجمهورية بردّه.
ونلفت النظر في هذا الصدد الى قانون الإفراج عن محطة الـMTV بحيث أصر المشرّع، على رغم اعتراضات النائب الراحل إدمون نعيم، على تضمين القانون نصاً تفسيرياً للحكم القضائي القاضي بإغلاق المحطة الإعلامية إغلاقاً تاماً مفاده أن الإغلاق التام يعني إغلاقاً لثلاثة أيام، بما يشكل سابقة سافرة في تفسير أعمال القضاء. ونلفت النظر الى قوانين العفو عن جعجع ورفاقه وعن جرائم الضنية وعنجر التي هي أيضاً شكلت نقضاً للأحكام الصادرة عن القضاء أو تدخلاً في قضايا ما برحت عالقة أمامه، وهذا ما سنتوسع في شأنه تحت باب المساس بالطابع العام للتشريع.
ب‌ ــ المساس العلني بالطابع العام للتشريع:
إن أبرز الأخطاء في هذا المجال تمثل في قانونيْ العفو عن جرائم السيّد سمير جعجع ورفاقه من جهة وعن جرائم الضنية وعنجر من جهة أخرى. وخلافاً لما هو شائع، اللافت في القانونين ليس العفو بحد ذاته، إنما مضمونه الذي يجافي بالواقع أبسط أصول المساواة أمام القانون.
فإذا تمثل خطاب الإفراج عن السيد جعجع طوال فترة اعتقاله في التنديد بالاستثناءات التي نص عليها قانون عفو 1991 (وهي الجرائم المرتكبة ضد القادة السياسيين أمثال داني شمعون ورشيد كرامي) مع الدعوة الى إلغائها طيّاً لصفحة الماضي ومنعاً لأي استغلال سياسي، فإن قانون العفو عن جعجع ورفاقه جاء مناقضاً لهذا الخطاب وحتى لأسبابه الموجبة طالما أنه عمد الى تكريس هذه الاستثناءات بعد استثناء «السيد جعجع ورفاقه» منها.
وبالفعل، فإن هذا الخطاب لقي بعد مقتل الحريري تحوّلاً أساسياً وذلك نتيجة رفض شخصيات 14 آذار ان يشمل العفو اغتيال الزعماء الكبار أمثال بشير الجميل وكمال جنبلاط ورينه معوض وتمسكهم بوجوب التمييز بين الجرائم التي عزوها الى النظام السوري (وغير القابلة للعفو!) والجرائم التي استعملها هذا النظام للتنكيل بخصومه السياسيّين أمثال جعجع (!)، ما حال دون إلغاء الاستثناءات. وعلى هذا الأساس، لم يأتِ العفو عن جعجع من باب توسيع إطار العفو العامّ، إنما من باب الامتياز والاستثناء في الاستثناء، بما يكرس قاعدة الاستثناء. وقد ظهر ذلك في أمرين اثنين، الأول أن القانون شمل حصراً الجرائم التي حوكم فيها السيد جعجع ورفاقه واحدة فواحدة، علماً ان بعضها ارتُكب بعد الحرب، والثاني أنه نص على وقف التعقّبات ضد السيد جعجع أو أيٍّ من رفاقه عن أي جريمة حاصلة حتى آخر 1994، بما يعني عفواً «مفترضاً» عن أي مسؤولية «مفترضة» لهؤلاء حتى ذلك التاريخ (أي بعد ما يزيد على ثلاث سنوات ونصف سنة من انتهاء الحرب) من دون أن نجد في الأسباب الموجبة أيّ تبرير لهذه المبالغة في العفو.
والأمر نفسه نلمحه في قانون العفو عن جرائم الضنيّة وعنجر بحيث جاء هو الآخر بمثابة تدخّل في قضايا معروضة على القضاء بناءً على اعتبارات شخصيّة (متصلة بالحركات الاسلاميّة). والهدف السياسي من ذلك العمل هو الآخر جليّ، ومفاده أنه يشكل رسالة للحركات الاسلاميّة المتطرّفة لانتزاع ولائها للحكم الجديد وبأقل تقدير لثنيها ــ بفعل مقايضة العفو ــ عن أيّ اعتراض أو حتى تحفّظ إزاء العفو عن جعجع ورفاقه. وهذا ما يسمح لنا بالانتقال الى القوانين الآيلة الى المجاملة أو المناصرة للأحلاف على حساب الأخصام السياسيين.
2 ــ القوانين الآيلة الى المجاملة أو المناصرة دعماً للأحلاف على حساب الأخصام السياسيين:
في هذا الصدد، أبرز وجوه المجاملة والمناصرة تمثّل في تنظيم شؤون طائفة الموحّدين الدروز، على نحو أدّى الى تمكين الغالبيّة الشعبيّة الدرزيّة (المؤيّدة للوزير جنبلاط) من التحكّم بمناصبها ومجالسها على حساب الفئات الأخرى التي كانت تتمتّع تاريخيّاً بما يشبه الحصص المحفوظة كما هي حال الأرسلانيّة أو خلوات البيّاضة.
فمن أبرز بنود هذا القانون السعي الى تطويل أمد المجالس المنتخبة حالياً بحيث مدّد مدة المجلس المذهبي من أربع الى ست سنوات، وجعل ولاية شيخ العقل خمس عشرة سنة يسوغ تمديدها بالأكثرية المطلقة بدلاً من أكثرية الثلثين كما كانت عليه الحال في قانون 1962.
وفي الاتجاه نفسه (أي اتجاه الاستفادة من الأغلبية الحاضرة) ذهب القانون الى تعديل نسب الأكثرية الضرورية لاتخاذ قرارات معينة، كما هي حال قرار تمديد ولاية مشيخة العقل المذكورة أعلاه، لا بل إن المشرّع ذهب أبعد من ذلك بحيث وضع نصاً هجيناً مفاده إعطاء الأكثرية المطلقة حق إقالة أي من الأعضاء المنتخبين من دون الحاجة الى أي تعليل أو تبرير، الأمر الذي لا يسمح إذاً لهذه الأكثرية بفرض آرائها على الأقلية فحسب بل أيضاً بإخراجها من المجلس إذا استساغت ذلك. وهذه الصلاحية المعطاة للمجلس المذهبي إنما تسمح للأكثرية فيه بتعديل تركيبته وتالياً الأكثريات والأقليات وفقاً لهواها، الأمر الذي يجرّد الأقلية (مهما كان حجمها) من أي ضمانة.
وذهب القانون الى توسيع صلاحيات المؤسسات الطائفية التي تسيطر عليها الأكثرية مع التنكّر لمجمل الجهات التقليدية غير المنتخبة كالهيئة الروحية العليا أو آباء البياضة. وهذا ما انعكس في إعطاء شيخ العقل المنتخب حق اختيار الهيئة الدينية التي تعينه في رعاية شؤون الطائفة الروحية والاجتماعية بمفرده، فيما كان القانون السابق يفرض عليه اختيارهم بالتوافق مع الهيئة الروحية العليا (التي لم يعد لها أي ذكر أو مكانة في القانون الحاضر). وانعكس في إناطة حق إدارة الأوقاف ــ بما فيها تأجيرها واستثمارها حتى خمس سنوات ــ بلجنة الأوقاف المنتخبة بالأكثرية النسبيّة في المجلس المذهبي. وهو إذ بدا صارماً في منع بعض أعمال التصرف بالأوقاف (كالبيع والرهن)، فإنه بدا في المقابل ليبراليّاً في تجويز الاستبدال أو تغيّر البناء بأكثرية ثلاثة أرباع الأعضاء الحاضرين، وهي ضمانة ضعيفة ما دامت للغالبيّة المطلقة حقّ تعديل تركيبة المجلس كما سبق بيانه.
الى ذلك، نلفت النظر الى أنّ القانون استبعد الوزراء السابقين على خلاف النواب السابقين من العضوية الحكمية للمجلس، خلافاً للقوانين السابقة وكأنه بذلك يتقصّد استبعاد بعض الشخصيات بعينها. ونلحظ أن الهيئة الناخبة ــ وإلى حد ما المرشحين ــ هم في غالبهم من النخبة سواء فيما يتصل بانتخاب ممثلي المهن الحرة أو بانتخابات ممثلي المناطق حيث تتألف الهيئة الناخبة حصراً من المنتخبين في الانتخابات البلدية أو الاختيارية، علماً أن تغليب النخبة في هذا المجال إنما يتآلف الى حد كبير مع نظام الزبونيّة التي تحكم إدارته حاليّاً الغالبية الدرزية. هذا مع العلم أن القانون نص صراحة على عضوية القاضيين الدرزيين في المجلس الدستوري وفي مجلس القضاء الأعلى بما يشكل تكريساً تشريعياً غير مسبوق للمحاصصة الطائفية في هذين المجلسين.
وعلى صعيد آخر، تمثلت المجاملة أيضاً في تعديل شروط الترقيّة لفترة ستة أشهر في قوى الأمن الداخلي والدّفاع الوطني، بما يسمح بتوسيع دائرة المرشحين للترقية من بعض الطوائف (وخاصة المسيحيين) على نحو يمكّن الحليف المسيحي من المشاركة في المحاصصة في مناصب معينة في هذه الأجهزة.
وتجدر الإشارة الى القانون الآيل الى إنشاء ميداليّات وأوسمة خاصّة بوزارة الداخلية، تمنح لمن يؤدي خدمات جليلة لوزارة الداخلية والبلديات (الخاضعة للغالبية)، بما يؤدي الى تمكين الوزارة من ممارسة حق المجاملة إزاء أعوانها وبالنتيجة الى إيجاد طرق بديلة للتكريم من دون الحاجة الى الأوسمة التي تمنحها رئاسة الجمهوريّة.
وتجدر الإشارة الى محاولة مجاملة رجال الدين المسلمين عبر إعادة إحياء الشرط القديم لتعيين المساعدين القضائيين في المحاكم الجعفرية والشرعية من بين حملة الشهادات في الشرع الاسلامي.
إننا نلقى شواهد لمجاملة الأحلاف الدوليّين على صعيد إقرار الاتفاقات الدوليّة. وهذا ما نلقاه في إقرار عدد ملحوظ من الاتفاقات ذات الطابع الأمني، منها اتفاق مكافحة الجريمة عبر الوطنية واتفاق مكافحة المهاجرين من طريق البرّ والبحر والجوّ، وخصوصاً بروتوكول مكافحة صنع الأسلحة النارية وأجزائها ومكوّناتها والذخيرة والاتجار بها بصورة غير مشروعة (وهو اتفاق قد يُثار في مواجهة سلاح حزب الله)، فضلاً عن السرعة الفائقة في تصديق الاتفاق لقمع أعمال الإرهاب النووي بعد ثمانية أشهر من توقيعها في 14-9-2005. ونلقى الاتفاقات المتصلة بما يتجاوز الاهتمامات اللبنانية، والتي يوحي إقرارها أنها فقط على سبيل المجاملة كما هي حال المعاهدات المتصلة بالفضاء ومنها اتفاقية المسؤولية الدولية التي تسببها الأشياء الفضائية أو الاتفاق المنظم لأنشطة الدولة على سطح القمر والأجرام السماوية الأخرى أو اتفاقية تسجيل القنوات المطلقة في الفضاء الخارجي.
ثانياً: نقص القوانين الآيلة الى إيجاد مؤسّسات أو قواعد للمستقبل:
بمعزل عن الحسابات السياسية، فإننا نلحظ في ما تقدم انحساراً كبيراً للقوانين الآيلة الى ايجاد مؤسسات أو قواعد عامة للمستقبل. وهذا الأمر يتجلى بشكل خاص في القوانين المالية التي اتخذت طابعاً إجرائياً محضاً، بمعنى أنه أُقرت موازنة 2005 بعد شهرين من انتهاء السنة المذكورة فيما لم تضع الحكومة حتى اللحظة مشروع قانون موازنة لأي من عاميْ 2006 و2007. لكنّّّه يتجلّى بالأخص في ندرة القوانين الآيلة الى وضع تنظيمات جديدة.
على صعيد القوانين الداخلية، وإذا وضعنا جانباً القوانين الإجرائية، نلحظ ــ أن سائر القوانين لا تتعدى 22 قانوناً بقي منها 20 قانوناً بعد رد قانون مجلس القضاء الأعلى وإبطال قانون إرجاء النظر في الطعون النيابية. هذا مع العلم ان بعض هذه القوانين (5) هدف الى تعطيل القوانين السابقة كما سبق بيانه وأن بعضها الآخر (3) ذات طابع استثنائي ومؤقت، وتالياً مجرّد من أيّ مفعول مستقبلي، كما هي حال القانونين المتصلين بتعديل شروط ترقية عناصر قوى الأمن الداخلي والدفاع الوطني لفترة قصيرة، وتحديد أسس خاصة لمعادلة صف الفرشمن بصور استثنائية ولمرة واحدة، وأن بعضها الآخر (2) خاص بطائفة معينة، كما هي حال تعديل قانون تنظيم القضاء الشرعي السني والجعفري الصادر بتاريخ 16-7-1962 أو تنظيم شؤون طائفة الموحّدين الدروز أو أنه يعني قضايا مطلبية خاصة بفئات محدودة (3) كما هي حال قانون تعديل الشهادات الأجنبية (وهو يعني فقط الطلبة الذين يحوزون شهادات جامعية في الخارج)، أو قانون إفادة الموظفين من الضمان (وهو يعني فقط موظفي الدولة)، أو قانون أصول المحاكمات الجزائية الخاص بالأشخاص المحكومين والذي تتوافر لديهم شروط إعادة المحاكمة، فيما بعضها الآخر يتصل بأمور التكريم فقط كإنشاء ميداليات لدى وزارة الداخلية.
وكحصيلة لذلك، يظهر كأنّما القوانين التنظيميّة ذات الطابع العام وذات المفاعيل المستقبليّة، هي فقط 6: غالبها (4) يُعنى بمسائل ضريبية كما هي حال قانون تنظيم مديرية الضريبة غير المباشرة، أو مالية كما هي حال قوانين تسنيد الموجودات وإنشاء هيئات الاستثمار أو رفع القيود أمام استثمار الأجانب في الوساطة المالية وأبرز خصائصها أنها تفتح الباب أمام المستثمرين الأجانب من دون قيد، ما يعكس الى حدّ كبير الرؤى الاقتصادية للغالبية. والى ذلك، يبقى القانون التعديلي لقانون إنشاء المجلس الدستوري وهو قانون يتميز بالدرجة الأولى بخلفياته السياسية كما سبق بيانه، والقانون الذي يُعنى بتنظيم وزارة البيئة، وهو مؤلّف من ثلاث عشرة مادة أبرز ما فيها إنشاء ضابطة بيئية فضلاً عن دوائر إقليمية خاضعة لمصلحة خاصة في الوزارة، علماً أن غالب أحكامها يحتاج الى مراسيم تنفيذية للدخول حيز التنفيذ.
وتالياً، لا نخطئ القول بأن المشرّع بدا ــ في لحظات تعفّفه سياسياً ــ وكأنه ينأى بنفسه عن الإشكاليات الاجتماعية كافة، ليحصر اهتمامه بتنظيم أدوات مالية متصلة بشكل أساسي برؤاه الاقتصاديّة.
أما على صعيد الاتفاقات والمعاهدات الدولية، والى جانب ما ذكرناه أعلاه في شأن معاهدات المجاملة والمناصرة، فإننا نسجل إقرار بعض المعاهدات المهمة كمعاهدة حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه أو بحماية التراث الثقافي غير المادي أو بروتوكول كيوتو الملحق باتفاقية الأمم المتحدة أو بروتوكول منع وقمع الاتجار بالأشخاص وبخاصة النساء والأطفال. ولكن يُلحظ ان إقرار هذه الاتفاقات جاء تتمة للجهود الحكومية والتشريعية السابقة لانتخاب الغالبية النيابية وفي سياق التزامات لبنان الدولية. وخير دلالة على ذلك هو تباطؤ الحكومة والمجلس النيابي في تفعيل هذه المعاهدات كأن تضع القوانين الضامنة لحماية التراث غير المادي والذي هو في طور الزوال.

* محام وباحث قانوني