داوود خير الله *
طلبت الحكومة اللبنانية وقرر مجلس الأمن الدولي إنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري وعدد من المواطنين. السجال السياسي الذي قام ولا يزال مستمرّاً حول هذه المحكمة والاطلاع على ما تسرّب ونشر كمسوّدة لنظامها الأساسي يستدعي بعض الملاحظات. يبدو مشهد قيام المحكمة الدولية الخاصة للبعض أنه يعكس مقايضة السيادة الوطنية بمصالح سياسية لبعض الفرقاء الداخليين، ولآخرين يبدو تنازلاً عن السيادة من أجل بلوغ العدالة، فيما يخشى آخرون أن ما يجري قد يكون تخلّياً عن السيادة والعدالة والاستقرار الوطني.
مما لا شك فيه أن القبول بإنشاء المحكمة الدولية الخاصة لممارسة أعمال قضائية، في ضوء ما ينصّ عليه مشروع نظامها الأساسي، والقيام بوظائف هي في صميم الاختصاص والسيادة اللبنانيين، هما تخلّ عن جزء مهم من السيادة الوطنية. فالسيادة هي الاستئثار بالحكم الذاتي. وأهمّ مظاهر السيادة هو أن تتولّى الدولة ممارسة كل حقوقها ومسؤولية تطبيق القوانين في كل الجرائم التي ترتكب على أرضها. من الصعب جدّاً تصوّر دولة تتمتع بسيادة تامة تقبل بالتنازل عن حقها في أن تقوم أجهزتها وموظفوها بتطبيق قوانينها على كل أراضيها بما في ذلك مكافحة كل من يخالف هذه القوانين ومعاقبته. المحاكم الجنائية الخاصة ذات الطابع الدولي تُقام عادة لتطبيق القانون في دول منقوصة السيادة.
لكنّ العديد من المواطنين قد يشعر بأن العدالة هي هدف كل مجتمع بشري راق، وأن تحقيق هذا الهدف هو قيمة قد تعلو على قيم عديدة وتدفع الى التنازل عن السيادة في بعض وجوهها فيغالب المواطن حزنه بأنه ينتمي الى وطن تشعر فيه حكومته المؤتمنة على السيادة الوطنية والمكلّفة بممارستها بأن العدالة لا يمكن ان تأخذ مجراها وتبلغ هدفها في ظل حكمها فتطلب إنشاء محكمة دولية تقوم بما تعجز هي عن القيام به. يغالب المواطن حزنه ويقبل بالتنازل عن بعض السيادة شرط أن تأخذ العدالة مجراها وتبلغ هدفها. وقد يمنّي هذا المواطن النفس بأن مثل هذا الإجراء قد يساهم في شكل فعّال في الحدّ من انتشار ثقافة الاغتيالات السياسية في المستقبل.
لكنّ المقلق هو أن تصبح المحكمة الدولية الخاصة وسيلة لتحقيق أهداف سياسية خارجية وداخلية من دون أن تبلغ العدالة هدفها، فتصبح في أيدي محرّكيها «كالمسار السلمي» أي أن المسار أصبح هو الهدف وهو الوسيلة للابتعاد عن السلم، فتطول التحقيقات والاجراءات القضائية والتقارير ذات المفاعيل السياسية ولا تبلغ العدالة هدفها وقد تخرج القضية كلّياً عن سيطرة السلطات اللبنانية ويتحكّم بها المسيطرون على «الشرعية الدولية».
فهل من مبرّر لهذا القلق؟
طبيعي أن يهزّ اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق لبنان بكل أطياف شعبه ولكن الاهتمام الذي لقيه هذا العمل الإجرامي وردود فعل بعض سلطات المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا، أمر غير مألوف لا بل غير مسبوق. وقد اتخذ هذا الاهتمام شكل الرغبة في مساعدة لبنان على معرفة الحقيقة بالنسبة إلى الجناة لكي ينالوا عقابهم. فكان قرار مجلس الأمن الرقم 1595 بتعيين لجنة تحقيق دولية لمساعدة السلطات اللبنانية على التحقيق والكشف عن الجناة وقد اختير السيد ديتلف ميليس رئيساً لهذه اللجنة التي أُعطيت إمكانيات مادية وتقنية وصلاحيات ندر أن نال مثلها محقق دولي. فكانت النتيجة أن أساء السيد ميليس استعمال وظيفته وخالف كل القوانين والأعراف لجهة الحفاظ على مبدأ سرية التحقيق بما فيها قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني الملزم له. فسرّب معلومات كان يجب أن تبقى سرّية ونشر أسماء وإفادات لشهود ولمتهمين استمع إليهم، وأمر بتوقيف متهمين لا يزالون في السجن بناءً على إفادات شهود تبيّن كذبهم في ما بعد، وأعلن في تقاريره خطته في إجراء التحقيق واستنتاجات قطعية بلغها على الرغم من إعلانه بأن لجنته كانت لا تزال في بداية تحقيقاتها وقد طلب تمديد المهلة المحددة لإكمال التحقيق ومُنح إياه.
فلو صدر عن أي فرد عادي جزء بسيط من المعلومات التي نشرها أو سرّبها السيد ميليس لحوكم بجريمة إعاقة مجرى العدالة. وليس أدلّ على مخالفة السيد ميليس مبادئ وأصول جوهرية في التحقيق الجنائي من عمل السيد براميرتس الذي خلفه في ترؤس لجنة التحقيق الدولية. فطريقة إجراء التحقيقات وكتابة التقارير التي يضعها السيد براميرتس هي إدانة واضحة لما قام به سلفه. فسرية التحقيق أضحت مصانة ولم نعد نسمع أو نقرأ في تقارير لجنة التحقيق الدولية عن أسماء وإفادات الشهود والمتهمين، وأضحت الاستنتاجات رهينة انتهاء التحقيق. إن عمل السيد ميليس كان ذا أهداف سياسية بامتياز. فهدف تقاريره واستنتاجاته المبكرة كان استعمالها لاستصدار قرارات عن مجلس الأمن الدولي هدفها سياسي في جوهره وهذا ما حصل.
بعد مرور سنة ونصف سنة على بدء التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه، والتحقيق هو المرحلة الأهمّ في كشف الفاعلين ومعرفة الحقيقة وهو الموضوع الأساسي لكل محاكمة مقبلة، لم يعرف حتى الآن من الجاني ولم يصدر في حق أي فرد، بمن فيهم الضباط الذين لا يزالون موقوفين على ذمة التحقيق، أي قرار بالاتهام أو الظن. ولكن قبل تعيين متهم يمكن إحالته على المحاكمة تتسارع الأحداث وتزداد الضغوط من أجل إقامة محكمة دولية خاصة تحلّ محل السلطات اللبنانية في كل ما يتعلّق بإدارة إجراءات التحقيق والمحاكمة وتنتزع من السلطات اللبنانية ما حفظه قرار مجلس الأمن الرقم 1595 لها من سيادة في هذا الشأن. فما هي طبيعة هذه المحكمة وخصائصها؟
الاستئثار في تطبيق القوانين الجزائية من الدول كان ولا يزال رمزاً مهماً من رموز السيادة الوطنية. يمكن مثلاً أن تحدد قواعد القانون الدولي الخاص في دولة ما تطبيق قوانين دولة أخرى على بعض العقود والمعاملات الخاصة وكذلك تنفيذ أحكام صادرة عن محاكم دول أخرى في شؤون القضايا المدنية والتجارية، لكن من غير المألوف أن تقبل دولة أن تطبق على أراضيها قوانين تتعلق بالشأن العام، وخاصة القوانين الجزائية أو تنفيذ أحكام صادرة في هذا الشأن عن غير المحاكم الوطنية. لكنّ الفظائع والمآسي التي خلّفتها جرائم الحرب والابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية، التي مكّن التطور التكنولوجي المجتمع البشري من معايشتها، جعلت من ايجاد مرجع قضائي فعّال على المستوى العالمي للحدّ من هذه الجرائم ضرورة ملحّة عبّرت عنها الجمعية العمومية للأمم المتحدة منذ عام 1948. لكنّ رغبة المجتمع الدولي هذه لم تترجم الى واقع حتى عام 1998 مع توقيع اتفاقية روما المنشئة لمحكمة الجنايات الدولية التي مركزها في لاهاي.
لكن العالم شهد قيام عدة محاكم جنائية وخاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فمحاكم نورمبرغ وطوكيو أقامها الحلفاء لمحاكمة القادة الألمان واليابانيين الذين اعتبروهم مسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت إبّان الحرب العالمية الثانية. ولم تسلم هذه المحاكم من النقد على أساس أنها كانت محاكم أقامها الغالب لمحاكمة المغلوب. وقد أنشأ مجلس الأمن الدولي محاكم جنائية خاصة لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الابادة الجماعية والتطهير العرقي إثر الفظائع التي رافقت تفكّك يوغوسلافيا وتلك التي ارتكبت في بوروندي نتيجة حرب أهلية. وكان القانون الذي يطبق في هذه المحاكم هو القانون الدولي والقضاة هم من رعايا دول أجنبية. لم تحقق هذه المحاكم الهدف المرجو منها إن لجهة السرعة في التحقيق وإن لجهة البتّ بالدعاوى وإن لجهة الكلفة المادية وإن لجهة الأثر الايجابي في الذين عانوا من الجرائم ومرتكبيها. وقد عمد مجلس الأمن الدولي الى إنشاء محاكم وصفت بالهجينة لأنها ضمّت قضاة محليين، إضافة الى قضاة أجانب للنظر في الجرائم التي وقعت في سيراليون وكوسوفو وكمبوديا وغيرها.
إن ما يميز المحكمة الخاصة بلبنان عن سواها من المحاكم الجنائية الأخرى ذات الطابع الدولي هو أنها الوحيدة التي أُنشئت لمعالجة جريمة قتل سياسية وصفت بالعمل الارهابي لكي يكون لمجلس الأمن الدولي مبرر التدخل إن في التحقيق وإن في إقامة المحكمة. ولن يكون على المحكمة الخاصة النظر في أية تهمة أو جريمة من أجلها أنشئت محاكم جنايات دولية. فخلافاً للمحاكم الدولية الأخرى لن تنظر المحكمة في جرائم تعتبر عادة جرائم ضد القانون الدولي كجرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية. وفي ما يتعلّق بجريمة الارهاب التي تتكرر بسخاء وغزارة في قرارات مجلس الأمن فليس هناك تعريف متفق عليه في القانون الدولي لهذه الجريمة أو عقاب معيّن لها. وليس هناك سابقة لمحكمة دولية أن نظرت في جريمة وصفت بأنها عمل إرهابي. لذلك لا مناص من تطبيق القانون اللبناني على جريمة هي في الأساس من اختصاص القضاء اللبناني. وهذا ما نصّت عليه المادة الثانية من مسودة النظام الأساسي للمحكمة العتيدة.
المحاكم الدولية الخاصة لم تسلم من الانتقاد لأسباب عدة منها أن الدوافع لإنشائها يغلب عليها الطابع السياسي. لذلك اللجوء الى «محكمة الجنايات الدولية» هو الخيار الأفضل لإبعاد تهمة التسيّس عن المحكمة التي تقام لأسباب خاصة وأهداف معينة. ولكن جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه لا يمكن إحالتها على محكمة الجنايات الدولية لا لأن لبنان ليس عضواً موقّعاً على الاتفاقية المنشئة للمحكمة، فهذا أمر لحظه النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية ونصّ على وسائل عدة لتجاوزه. لكن العائق الأساسي هو أن العمل الجرمي المرتبط باغتيال الرئيس الحريري لا يدخل ضمن الجرائم التي هي من اختصاص المحكمة الدولية، وهذا دليل إضافي على أن المحكمة الخاصة التي يجري إنشاؤها يصعب تجريدها من مآرب سياسية.
هناك أسباب عدة تدفع إلى الاعتقاد بأن الدوافع وراء إنشاء المحكمة «ذات الطابع الدولي» الخاصة بلبنان لا تعكس استجابة للرأي العام العالمي من أجل وضع حدّ لجرائم ضد الانسانية وإنزال العقاب بمرتكبيها، كما هو الوضع بالنسبة إلى كل المحاكم الجنائية الدولية الخاصة والعامة، ولا تعكس رغبة صادقة في إحقاق الحق وبلوغ العدالة كما يتمنى العديد من اللبنانيين. وسوف أقتصر من هذه الأسباب وأصحاب الأهداف السياسية على موقف الولايات المتحدة الأميركية.
مما لا شك فيه أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ليس لها أن ترى النور لولا إرادة الولايات المتحدة وعملها ونفوذها في مجلس الأمن. ففيما تسعى معظم دول العالم وشعوبه الى إعطاء محكمة الجنايات الدولية، لمَا تتمتع به من كفاءة وصدقية ونزاهة القدرة على ممارسة سلطات فعلية في تطبيق القانون الدولي الانساني وفرض حكم القانون على مرتكبي كبرىات الجرائم، الشرعية في القانون الدولي، تمتنع الولايات المتحدة عن التوقيع على الاتفاقية المنشئة لمحكمة الجنايات الدولية وتفرض عقوبات على كل دولة تنضمّ الى المحكمة الدولية ما لم توقّع مع الولايات المتحدة تعهّداً بأنها لن تلجأ الى محكمة الجنايات الدولية في شأن أية جريمة أو مخالفة قد يرتكبها جنود أو مواطنون أميركيون أو من حالفهم.
أما في شأن المحاكم الجنائية الخاصة فتكفي لتقويم موقف الولايات المتحدة لجهة التجرد والحرص على أن تأخذ العدالة مجراها وتبلغ هدفها، مقارنة موقفها في شأن محاكمة ومعاقبة من تعتبر أنهم ارتكبوا جرائم جسيمة وخطرة في العراق وفي لبنان. ففي العراق تعتبر الولايات المتحدة، وقد أعلن رسميّوها مراراً، أن صدّام حسين وشركاه في الحكم مسؤولون عن جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية، إضافة الى أصناف عدة من الجرائم ضد الإنسانية، لكنها ترفض إنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة صدّام ورفاقه. فمن أجل بلوغ العدالة بالنسبة إلى جرائم دولية بامتياز تلجأ الولايات المتحدة، وبصورة مخالفة للقانون الدولي الذي لا يجيز للمحتل إقامة مثل هذه المحكمة، الى إنشاء محكمة عراقية خاصة، في بلد مسلوب السيادة وفي حالة تمزّق داخلي، تعمل في الإطار العراقي وفي منأى من كل رقابة دولية وتعكس في تكوينها كل الأحقاد والخلافات الداخلية، مما يحول دون بلوغ محاكمة عادلة ولا يضمن سوى الانقسام الدخلي العراقي وارتياب الرأي العام العالمي بعدالة أي حكم يمكن أن يصدر عنها.
أمّا بالنسبة الى لبنان حيث الجريمة هي من دون أي شك من اختصاص القضاء اللبناني ولا يوجد قانون دولي يطبّق في شأنها وليست هناك قرارات سابقة لمحاكم دولية يمكن العودة إليها، فتعمل الولايات المتحدة مع فرنسا وبمساعدة أطراف لبنانية على انشاء محكمة دولية حتى لو كان القانون اللبناني هو وحده القانون الواجب التطبيق.
المهمّ، بعد التنازل عن جزء مهم من السيادة الوطنية والمخاوف التي أثارها موضوع المحكمة الدولية، أن تأخذ العدالة مجراها وألا يصبح دم الرئيس الحريري وآخرين من قادة الرأي الذين قضوا في ظروف مماثلة موضوع متاجرة سياسية وأن تصبح المحكمة الدولية الخاصة وسيلة لمزيد من التصدّع الداخلي يمتدّ ويتفاقم مع امتداد فترة التحقيق وبطء المحاكمة. فما الذي يمكن توقّعه بعد اكتمال الخطوات اللازمة لإنشاء المحكمة وملء الوظائف الضرورية لبدء عملها؟
ما يأمله كل مواطن حريص على مصلحة لبنان وما يرجوه كل محب للعدالة هو أن يشغل كل الوظائف الرئيسية في المحكمة من تتوافر فيهم النزاهة والكفاءة والخبرة والاستقلال والجرأة الأدبية للوقوف في وجه أي تدخّل من أية سلطة مهما علا شأنها وعظمت قوّتها، وأن ينتهي التحقيق والمحاكمات بأسرع ما تقتضيه الضرورات الاجرائية والكفاءة المهنية، وأن تعود الى لبنان سيادته ببسط سلطة القانون على أرضه بصورة تامة وبأسرع وقت ممكن. فعلى الرغم من كل ما ارتكب من أخطاء وتجاوزات وما لقي الشعب اللبناني من معاناة نتيجة اغتيال الرئيس الحريري يمكن المحكمة إذا توافرت لها النزاهة، بالإضافة إلى الكفاءة، أن تصل الى نتائج يتمنّاها كل محب للعدالة ويكون عملها سابقة تُحتذى في أماكن أخرى من العالم اذا ما اقتضت الضرورة.
لكن من الصعب تبديد شكوك من يساورهم القلق بالنسبة إلى الأهداف السياسية من وراء إنشاء المحكمة وما يحتويه نظامها الأساسي من فجوات. قد يكون من المستبعد أن تصدر عن المحكمة أحكام نهائية لا تعكس حدّاً أدنى من المهنية من قبل القضاة، الا ان هناك دلائل عدّة على أن المحكمة يمكن أن تستغل لبلوغ أهداف سياسية كما جرى في المرحلة الأولى من التحقيق إبّان كان في عهدة السيد ميليس، إذ إن مآرب الولايات المتحدة وفرنسا وكذلك الأطراف اللبنانية من وراء انشاء المحكمة لا يمكن تجريدها من الأهداف السياسية، والإصرار على انشاء المحكمة وبدء عملها قبل نهاية التحقيق أمر يدعو للريبة والتساؤل.
* أستاذ القانون الدولي في جامعة جورجتاون