صالح عبد الجواد*
في الساعة الخامسة من بعد ظهر يوم التاسع والعشرين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1956 اجتازت الدبابات الاسرائيلية الحدود الدولية لمصر معلنة بداية العدوان الإسرائيلي على مصر. جنازير الدبابات الإسرائيلية التي تركت آثارها على رمال سيناء لم تكن سوى المشهد الأول من خطة ــ مؤامرة ثلاثية سرية بين إسرائيل وبريطانيا وفرنسا، وهي مؤامرة حيكت معظم تفاصيلها في فيلا سرية في ضاحية سيفر إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية باريس. أبطال المؤامرة ثلاثة ساسة: رئيس الوزراء الإسرائيلي، دافيد بن غوريون ورئيس الوزراءالفرنسي غي موليه ورئيس وزراء بريطانيا أنتوني إيدن. أما عراب الاتفاق فكان الثعلب شمعون بيريز. دقيقتان فقط فصلتا بين بداية العدوان وارتكاب مجزرة كفر قاسم. ما هي العلاقة التي تربط بين الحدثين، العدوان الثلاثي والمذبحة التي أدت إلى قتل خمسين مدنياً فلسطينياً. في الآتي استعراض عام لخلفية الحدثين والحبل السري الذي يربط بينهما. ظل حلم استكمال حرب 1948 (تهجير شامل للفلسطينيين واحتلال سائر فلسطين) أملاً وحلماً يداعب بن غوريون الذي كان يعلم أن حرباً إقليمية كبيرة وحدها كفيلة بتحقيق هذا الحلم. ضمن هذا السياق أجهض بن غوريون كل المحاولات العربية للتوصل إلى اتفاق سلام مع الدولة العبرية عن طريق المفاوضات السرية التي كانت قد قطعت شوطاً طويلاً إما بشكل مباشر (مع ممثلي الأسرة الهاشمية في الأردن والعراق)، أو عن طريق وساطة أميركية (مصر وسوريا). كان لدى بن غوريون أن أي اتفاقات سلام نهائية مع العرب ستؤدي إلى رسم حدود نهائية لإسرائيل، وهو أمر يتعارض مع مخططاته التوسعية.
ولهذا رفض بن غوريون، كما تظهر دراسة المؤرخ الإسرائيلي الجديد أفي شلايم، العروض السرية للرئيس السوري حسني الزعيم لاتفاق سلام مع سوريا. أما على الجبهة الأردنية فقد أدى اغتيال الملك عبد الله إلى وأد مفاوضات السلام السرية (كان يفترض أن يقوم الأرشيف البريطاني الرسمي Public Record Office بفتح ملفات عملية الاغتيال عام 2008، غير أن الحكومة البريطانية اتخذت قراراً العام الماضي بإبقائها سرية 40 سنة إضافية!). أما مع مصر عبد الناصر فقد أجهض بن غوريون المفاوضات السرية المكوكية التي كانت برعاية أمريكية من خلال سياسة الغارات «الانتقامية» عبر الحدود، ومن خلال عملية «شوشانا» السرية التي قام خلالها أفراد وحدة خاصة تابعة للموساد بتفجير مجموعة من المؤسسات الغربية في مصر لإظهار عبد الناصر بمظهر المعادي للغرب وإفشال عملية جلاء بريطاني نهائي عن مصر ( شهادة الدكتوراه للكاتب الإسرائيلي موطي غولان عن حرب 1956، نشرت في ما بعد في كتاب بالعبرية مفيدة جداً في هذا الموضوع). أطلقت سياسة بن غوريون العدوانية والمتشددة ديناميات دفعت المنطقة مرة أخرى إلى الحرب التي يحلم بها بن غوريون لاستكمال مشروع الطرد واحتلال الضفة والقطاع. إذ طلب المصريون السلاح من الدول الغربية للدفاع عن بلدهم في مواجهة الغارات الإسرائيلية، وعندما رفض الطلب، اتجه عبد الناصر نحو الدول الاشتراكية حيث عقد معها صفقة الأسلحة التشيكية، وقد ساهمت هذه الصفقة في تعاظم القدرة الدفاعية في مصر، ولكنها بالمقابل أغضبت الغرب والولايات المتحدة. رفضت الأخيرة كما كان مقرراً سابقاً تمويل عملية بناء السد العالي، ما حدا عبد الناصر إلى تأميم قناة السويس وزيادة الاعتماد على الاتحاد السوفياتي. نتيجة لذلك تشكل حلف ثلاثي سري بين فرنسا وإسرائيل وبريطانيا لضرب مصر. خطط الحلف لتوظيف إسرائيل في توفير مبرر للعدوان الثلاثي. كلفت إسرائيل بغزو سيناء حتى قناة السويس، وعندما تصل القوات الإسرائيلية للضفة الشرقية من قناة السويس، توجه فرنسا وبريطانيا إنذاراً إلى القوات الإسرائيلية والمصرية للتراجع عن ضفاف القناة، وفيما تنسحب القوات الإسرائيلية عدة كيلومترات توقع البريطانيون أن يرفض المصريون هذا الإنذار، وهو ما يوفر ذريعة للعدوان الفرنسي البريطاني، وهذا ما حدث بالفعل.
كانت أجندة بن غوريون تختلف تماماً عن أجندة حلفائه، ففي حين كانت أطراف العدوان الثلاثة متفقة على ضرب مصر بهدف إسقاط نظام عبد الناصر وإعادة مصر إلى الفلك الغربي، كان هدف بن غوريون الأساسي احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وتهجير العرب من الجليل والمثلث. فقط في 22 أكتوبر ــ تشرين الأول 1956، وفقط قبل أسبوع من بداية الهجوم الإسرائيلي على مصر، كشف بن غوريون بحضور شمعون بيريز مدير عام وزارة الدفاع الإسرائيلية ووزير الدفاع موشيه ديان وغي موليه رئيس وزراء فرنسا هدفه الرئيسي من الحرب. فبعد انتهاء المراجعة الأخيرة لتفاصيل الخطة العسكرية الرامية إلى مهاجمة مصر، فاجأ بن غوريون رئيس الوزراء الفرنسي بتقديم مشروع سياسي وصفه بأنه سيزيل متاعب كثيرة في الشرق الأوسط. قال إن الأردن دولة مصطنعة غير قابلة للحياة، ولذلك اقترح تقسيمها إلى قسمين: الغربي (الضفة الغربية بما في ذلك القدس) يكون من نصيب إسرائيل، أما القسم الشرقي( الضفة الشرقية) فيضم إلى العراق مقابل تعهد حكومته توطين اللاجئين الفلسطينيين. إضافة إلى ذلك طرح بن غوريون أفكاراً أخرى بشأن لبنان وبشأن حرية الملاحة الإسرائيلية في الممرات البحرية الاستراتيجية (مضائق البحر الأحمر وقناة السويس).
لم يحظ مشروع بن غوريون بالموافقة، ورغم ذلك فقد كان يعد لترحيل جديد، إذ كتب قبل حرب 1956: «إذا اندلعت الحرب فإن كل العرب في (إسرائيل) سيهربون خوفاً من أن نذبحهم».
ضمن هذا السياق يمكن فهم مذبحة كفر قاسم التي خطط لها بن غوريون بتنسيق مع بعض ضباط الجيش( عملية حفر فيرت) لبث الذعر في أوساط الفلسطينيين في الجليل والمثلث ورحيلهم كما حدث خلال حرب 1948. لم يهرب الفلسطينيون من كفر قاسم ولا من أي قرية عربية من قرى الجليل والمثلث. اعتصم الفلسطينيون، فقد تعلموا غالياً درس 1948. لدي اعتقاد راسخ بأن تصرف الفلسطينيين بصمود وكبرياء ساهم في شعور بن غوريون بصعوبة تنفيذ «الترانسفير» بالقوة في المستقبل.
لم يكن الموقف الشجاع للقرويين الفلسطينيين في كفر قاسم السبب الرئيسي الذي عطل مخططات الطرد فقط، بل نتيجة عوامل إقليميةٍ ودولية أيضاً، سنلقي الضوء عليها لأنها ستساعدنا على فهم آليات الطرد واستخلاص الدروس والعبر المهمة في الحاضر والمستقبل.
رفض الملك حسين الاستجابة لضغط الشارع والحركة الوطنية وقرر الوقوف على الحياد والامتناع عن الدخول في الحرب. أثبتت الأيام حكمة هذا الموقف. الموقف الدولي أيضاً وقف حجر عثرة أمام تحقيق أهداف بن غوريون. ربطت معاهدة دفاع مشترك الأردن مع بريطانيا، وكان الاتحاد السوفياتي عام 1956 في أوج قوته. والأهم من ذلك موقف الرئيس الأميركي أيزنهاور خلال أزمة السويس. وكان من أقل الرؤساء الأميركيين بعد عام 1944 تأثراً باللوبي الصهيوني. أرسل أيزنهاور على الأقل مذكرتين في الأسبوع الذي سبق العدوان على مصر يطلب فيها من بن غوريون التهدئة بشأن اتخاذ موقف متشدد من الأردن. وفي ظل الموقف الأردني والدولي كان من الصعب جداً على بن غوريون إيجاد غطاء أو ظروف تبرر مهاجمة الضفة الغربية وطرد سكانها وسكان المثلث.
دروس وعبر عدوان 1956 تعلمنا ما يلي:
ــ موقف الصمود والمقاومة اللاعنيفة للجماهير هو عامل حاسم في تفويت الفرصة على مخططات المعتدين.
ــ عدم الانجرار وراء المواقف الشعبية العاطفية، إذ إن الجماهير لا تعلم خلفية المواقف ولا موازين. ــ القيام بعملية طرد واسعة وسريعة للسكان لا يمكن أن تتم بدون مناخ دولي موات.
ــ وحدها الحروب (اعتداءات إسرائيلية واسعة تصاحبها مجازر) تسمح بعمليات طرد واسعة النطاق تؤدي إلى تغيير ديموغرافي حاد وسريع.
ــ المؤامرة (المبنية على توازن محدد للقوى، وعلى التخطيط الاستراتيجي البعيد المدى) هي عنصر مهم في تاريخ المنطقة.
*كاتب فلسطيني