حسن حردان*
شهدت العلاقات الروسية الجورجية في الآونة الأخيرة مزيداً من التأزم بين البلدين على خلفية إقدام جورجيا على اعتقال أربعة ضباط روس بتهمة التجسس.
المراقب للأوضاع بين البلدين، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي يتبيّن له أن الأمر أعمق وأبعد بكثير من ذلك.
فمن دون أدنى شك إن ما حدث ويحدث من توتر وتأزم في العلاقات بين روسيا وجورجيا هو جزء من الاستراتيجية الأميركية لإحكام السيطرة على منطقة أوراسيا الحيوية والضرورية كي تتمكن الدولة العظمى من التحكّم الكامل بمفاصل القرار الدولي. وإذا كان انهيار الاتحاد السوفياتي، وعهد بوريس يلتسين في روسيا قد شكّل التربة الخصبة كي تتمكن الإدارة الأميركية الصقورية من تنفيذ هذه الاستراتيجية التي هندسها مستشار الأمن القومي الأميركي السابق بريجنسكي، فإن عهد فلاديمير بوتين، قد أحدث تبدلاً جذرياً في السياسة الروسية، وخلق مناخات جديدة غير ملائمة للاستراتيجية الأميركية، ليس فقط في آسيا الوسطى، بل في مناطق أخرى حساسة من العالم أيضاً.
فالولايات المتحدة الأميركية تمكنت في عهد يلتسين من مد نفوذها إلى قلب منطقة آسيا الوسطى والعديد من الجمهوريات السوفياتية السابقة بغية تحقيق جملة من الأهداف، هي:
ــ السيطرة على مصادر الطاقة في المنطقة وطرق إمدادها وتأمين الفرص أمام الشركات الأميركية النفطية لاحتكار استخراج وتسويق النفط والغاز.
ــ محاصرة روسيا والعمل على محاولة تقويض استقرارها، من خلال تشجيع الأقليات داخلها على الانفصال عنها (نموذج الشيشان)، وإثارة القلاقل والمشكلات على حدودها مع الجمهوريات السابقة، حيث يجري إشغالها وإبعاد أنظارها عن التغلغل الأميركي في المنطقة، وفي الوقت ذاته جعل روسيا غير قادرة في المستقبل على استعادة مكانتها الدولية كدولة عظمى.
ــ منع حصول أي تواصل بين الجمهوريات السوفياتية السابقة وكل من روسيا، إيران، الصين، والهند للحيلولة دون نشوء محور دولي يضع حداً لسياسة التفرّد الأميركي.
إن مثل هذه السياسة الأميركية، إلى جانب شعور روسي بخطر التداعي الداخلي، خلقت المناخات المواتية لإحداث تغيير داخلي يضع حداً لحقبة يلتسين وسياسته الكارثية لمصلحة حقبة جديدة سمتها استعادة روسيا لتوازنها الداخلي ودورها الإقليمي والدولي، وفي هذا السياق جاء صعود بوتين إلى الكرملين خلفاً ليلتسين حيث انتهج سياسة ترتكز على ثلاثة مرتكزات:
ــ وضع حد لحركة الأوليغارشيين ونفوذهم المتزايد على الكرملين ووسائل الإعلام وقطاع النفط والمال، الذين كانوا على علاقة وطيدة مع الحركة الصهيونية والإدارة الأميركية، من أمثال فلاديمير غوسينسكي (إعلام) وبوريس بيريزوفسكي (بترول وإعلام ومال) وميخائيل خضركوفسكي (نفط).
ــ إعادة التوازن للاقتصاد وإعادة توزيع الثروة للحد من التفاوت الاجتماعي.
ــ استعادة موقع روسيا كقوة عظمى.
وبالفعل، إن السنوات الماضية من حكم بوتين أثمرت في المستويات الثلاثة العديد من الخطوات المتقدمة، حيث تمكن بوتين من إعادة التوازن للاقتصاد من خلال سداد الديون، التي راكمها يلتسين، مستفيداً من الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز، التي تملك روسيا كميات كبيرة منها، وكذلك عبر العودة إلى عقد صفقات بيع السلاح الروسي المتطور إلى دول عديدة والاهتمام بدور الجيش الروسي ومتطلباته، أما على مستوى استعادة مكانة روسيا كدولة عظمى فإن بوتين خطا خطوات كبيرة على هذا الصعيد، حيث عمد إلى استعادة علاقات الاتحاد السوفياتي السابقة مع سوريا، الجزائر، كوبا وكوريا الشمالية، وأقام علاقات وطيدة مع إيران وفنزويلا، وعمل على إرساء علاقات استراتيجية مع الصين وأقام بالتعاون معها منظمة شنغهاي التي تضم أيضاً الهند وجمهوريات سوفياتية سابقة مثل أوزبكستان وقرغيزستان وكازاخستان وطاجكستان، وأخيراً انضمت إيران إليها. وبدأت هذه المنظمة تشكل قطباً اقتصادياً وسياسياً آسيوياً يعمل على تطهير آسيا الوسطى من نفوذ الولايات المتحدة، وخلق شبكة من علاقات التعاون الاقتصادي والنفطي والتكنولوجي بين أعضائه. أدت هذه السياسة لبوتين إلى إزعاج إدارة بوش، التي تزداد الأزمات والمشكلات في وجهها، من العراق إلى أفغانستان، فيما عجزت عن تطويع سوريا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا والمقاومة في لبنان، وكذلك المقاومة في فلسطين، في وقت لم تعد قادرة على استصدار قرارات من مجلس الأمن لمحاصرة هذه الدول ومعاقبتها على رفضها الإملاءات الأميركية، بفعل الاعتراض الروسي الصيني. التوتر الحاصل في العلاقات الجورجية الروسية إنما يأتي بقرار أميركي في إطار محاولة واشنطن إثارة المشاكل والاضطرابات في وجه موسكو من أجل ثنيها عن انتهاج سياسات تضر بالسياسة الأميركية إن كان إزاء الملف النووي الإيراني أو الملف النووي الكوري الشمالي، وغيرهما من الملفات الساخنة، وكذلك تشجيع جورجيا على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لمحاصرة روسيا من حدودها الجنوبية القوقازية. وما يؤكد أن هذا التوتر يندرج في إطار الصراع الروسي ــ الأميركي، أن الضباط الروس الأربعة اعتقلوا بعد عودة الرئيس الجورجي من زيارة للولايات المتحدة الأميركية وإطلاقه تصريحات شديدة ضد روسيا.
يبدو أن الرئيس الجورجي ينسى حقائق الاقتصاد والجغرافيا التي تعمل كلها في مصلحة روسيا التي تملك القدرة على الرد على انضواء جورجيا تحت جناح الاستراتيجية الأميركية، ومن هذه الأوراق:
ــ النفط والغاز: فجورجيا، كما دول أوروبا الأطلسية، تعتمد في تأمين احتياجاتها من هاتين المادتين على روسيا القريبة منها، وخاصة الغاز، وهناك سابقة في هذا الموضوع حصلت مع أوكرانيا التي انقلبت على روسيا وانحازت إلى جانب أميركا والاتحاد الأوروبي، فردت عليها موسكو بقطع إمدادات الغاز عنها، وهذا ما اضطر أوكرانيا إلى الرضوخ لروسيا والقبول برفع أسعار الغاز.
ــ الكهرباء: تتزود جورجيا بالكهرباء من روسيا وهي لا تستطيع بسهولة توفير بدائل في وقت قريب، وتحتاج إلى بناء محطات كهرباء تكلّف مبالغ طائلة، فيما تكلفة الكهرباء الروسية منخفضة جداً.
ــ هناك أكثر من مليون مواطن جورجي يعملون في روسيا ويوفّرون عائدات مالية كبيرة لجورجيا. ولذلك إذا ما قررت موسكو محاصرة جورجيا فإنها تستطيع خنقها وإخضاعها، وهو ما هددت به إثر اعتقال الضباط الأربعة، وقد دفع هذا الحكومة الجورجية إلى المسارعة لتهدئة الموقف وإطلاق سراح الضباط الروس. إلى جانب ذلك تملك موسكو نفوذاً قوياً في إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبيين اللذين تقطنهما غالبية من المواطنين الروس، ويطالبان بالاستفتاء للانفصال عن جورجيا والانضمام إلى روسيا.
انطلاقاً من ذلك يبدو واضحاً أن الحرب الباردة تعود من جديد في أكثر من منطقة ساخنة، بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، ولكن من البيّن أن الظروف بدأت تعمل لمصلحة روسيا التي أخذت تعزز مواقعها وتستعيد النفوذ السابق للاتحاد السوفياتي، وتقف في مجلس الأمن عائقاً أمام محاولات واشنطن استصدار قرارات تكرّس هيمنتها، في وقت تشهد فيه السياسة الأميركية في ظل جورج بوش الانتكاسات المتتالية في العراق وأفغانستان وكوريا الشمالية وإيران ولبنان وفلسطين، حيث تخفق في فرض سيطرتها، وإملاء سياستها، وتفقد هيبتها ويتراجع نفوذها الدولي.
*كاتب لبناني