ماجد عزام *
الحرب الأهلية الفلسطينية أضحت أحد الخيارات الفتحاوية. هكذا نقلت وسائل الإعلام الأسبوع الماضي في سياق عرضها لتصريحات مسؤولين فتحاويين بارزين (نبيل شعث وتوفيق الطيراوي). تحدث الأول عن ضيق الخيارات المتاحة على الساحة الفلسطينية بحيث باتت محصورة بين حكومة الوحدة الوطنية أو الحرب الأهلية، بينما تحدث الطيراوي عن عملية تسلح كثيفة تقوم بها حركة حماس استعداداً للحرب الأهلية مع فتح، لا لمقاومة أي اجتياح إسرائيلي محتمل للقطاع.
تصريحات شعث والطيراوي جاءت متساوقة مع سمات الشهر الماضي، وتحديداً الأول من أكتوبر، حيث بدت الحرب الأهلية لازمة أساسية في معظم التصريحات الصادرة عن جهات وشخصيات سياسية وحزبية.
إذن، سؤال الحرب الأهلية بات مطروحاً بقوة للسجال، والإجابة لا تبدو سهلة، بعكس الماضي، حيث إن ثمة عوامل وظروف تتبلور الآن في فلسطين قد تؤدي إلى وقوع الكارثة، وفي المقابل ثمة عوامل معاكسة ومناقضة تقف في وجه هذا المشروع المأساوي.
قد تقع الحرب الأهلية في فلسطين، لأن هذا الأمر غالباً ما يحدث مع رحيل أي ديكتاتور أمسك بمقاليد الحكم وأفرغ المؤسسات من محتواها وجفف ينابيع الحياة السياسية. ومع كامل الاحترام للزعيم ياسر عرفات ومواقفه السياسية، إلا أنه للأسف الشديد حطم المؤسسات السياسية ــ التنظيمية وتركها هشيماً. ينطبق هذا الأمر على حركة فتح التي لم تعقد مؤتمرها العام منذ ستة عشر عاماً، وتحولت خلال العقدين الأخيرين إلى مجرد خيمة يجلس في صدرها الشيخ أو الزعيم الذي تحول إلى مرجعية لحسم الخلافات بعيداً عن أي مرجعيات أخرى قانونية أو تنظيمية. وبديهي أن حركة فتح لو كانت بخير، ولو كانت معافاة وتملك المؤسسات والحيويات الضرورية، لما تمكنت مجموعة من الانقلابيين من تلاميذ الزعيم الراحل الذين انقلبوا عليه قبل وفاته وبعدها من اختطاف الحركة والسيطرة على مقاليدها وتحويلها إلى إطار هدفه النيل من حركة «حماس» وإسقاط حكومتها أو إجبارها على القبول بالشروط الإسرائيلية المغلفة عربياً وأميركياً. الشيء نفسه حدث لمنظمة التحرير الفلسطينية، الوطن المعنوي للفلسطينيين، التي تحولت إلى مجرد إطار فارغ من أي محتوى، تديرها مجموعة من السياسيين المنتهية صلاحيتهم، الفاقدين لأي مرجعية شعبية أو دستورية أو تنظيمية، علماً بأن المنظمة كان يفترض أن تمثل إطار الحسم في الخلافات الفلسطينية، والمرجعية العليا التي يجب أن ينصاع الجميع للقرارات والسياسات التي تتخذها.
الحرب الأهلية قد تقع أيضاً لأن البعض ما زال يتحدث عن اتفاق أوسلو المشؤوم وكأنه لم يمت بعد، ولم تقض عليه إسرائيل عبر التنفيذ الانتقائي لبنوده وعبر السياسات الأحادية التي هدمت الأساس الرئيسي الذي يستند إليه الاتفاق، وهو التفاوض والحوار لحل المشاكل العالقة بين الجانبين. إذا كان أوسلو ما زال حياً، فإن الحرب الأهلية قد تبدو وشيكة لأن أحد الأهداف الإسرائيلية من الاتفاق هو إيصال الفلسطينيين إلى الاقتتال الداخلي، وخاصة أن الشيء القوي الوحيد الذي نص عليه الاتفاق هو الشرطة والأجهزة الأمنية الفلسطينية القوية التي يجب أن تأخذ على عاتقها توفير الأمن لإسرائيل.
الحرب الأهلية قد تقع كذلك لأن الساحة الفلسطينية، وبالتحديد الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية، لم تحسن التعامل مع خطة فك الارتباط والانسحاب الأحادي الاسرائيلي من قطاع غزة، حيث تم التعاطي مع الخطة بسذاجة وسطحية من دون الاتفاق على رؤية موحدة مشتركة لكيفية مواجهة الخطة والاستفادة من إيجابياتها والتخفيف من سلبياتها، والنتيجة هي تحول قطاع غزة إلى سجن كبير أو طنجرة ضغط، بحسب تعبير مراسلة هآرتس للشؤون الفلسطينية عميرة هاس، التي ستنفجر في أي لحظة ليس بالضرورة في وجه الإسرائيليين قياساً إلى الواقع والتجاذبات الفلسطينية والتباينات العميقة تجاه قراءة الخطة الإسرائيلية وأهدافها ودوافعها الحقيقية.
عامل آخر يزيد احتمالات وقوع الحرب الأهلية يتمثل في حالة الاستقطاب الحادة بين حركتي حماس وفتح، فتيار مهم من الحركة الأولى يشعر بالغبن والمظلومية وبأن هناك من يريد سلب الانتصار الذي حققته الحركة في الانتخابات التشريعية، كما أن هذا التيار يشعر بأنه بذل الجهد ونجح في جلب المعونات والمساعدات، غير أن الحصار الظالم منع وصولها إلى الشعب الفلسطيني وبتواطؤ من أطراف فلسطينية تستغل الأوضاع المعيشية والحياتية الصعبة للتحريض على حماس وإزاحتها من السلطة. أما في فتح فالصورة مغايرة، وثمة فريق يعتقد أنه يملك كامل الحق لتنفيذ الانقلاب على حماس وإسقاط حكومتها بحجة أن هذا يتساوى مع المصلحة الفلسطينية العليا. ويبدو هذا الفريق ميكيافيلياً بامتياز، فالغاية تبرر الوسيلة حتى لو تمثلت هذه بالحرب الأهلية الفلسطينية.
وأخيراً قد تقع الحرب الأهلية الفلسطينية لأن ثمة أطرافاً إقليمية ودولية تريد رأس حماس بأي ثمن، وتحاول إفشالها وإثبات أن خيار المقاومة عاجز عن الحكم وتوفير مستلزمات الحياة للشعب الفلسطيني، كما أن إسقاط حماس بات ضرورة ملحة بعد الانتصار الأخير الذي حققه حزب الله في لبنان والاستنفار الهائل لأميركا وحلفائها من المعتدلين العرب الخائفين من الانتصار وثقافته والساعين إلى وأد كل بؤر المقاومة الممانعة في المنطقة عموماً وفلسطين خصوصاً. في مواجهة العوامل السابقة ثمة عوامل مناقضة معاكسة تأمل أن تنجح في منع وقوع السيناريو الكارثي، أولها أن ثمة مزاجاً شعبياً فلسطينياً قوياً ضد الحرب الأهلية، وعطفاً على ذلك يمكن الإشارة إلى موقف الرئيس محمود عباس الرافض حتى الآن للانزلاق نحو الحرب الأهلية التي ستقضي على القضية الفلسطينية، وهو الموقف الذي يتبناه أيضاً رئيس الحكومة إسماعيل هنية كما قيادة حماس.
كما أن سيناريو الاقتتال الداخلي أو الحرب الأهلية قد يؤدي إلى إسقاط وانهيار السلطة الفلسطينية، التي رغم كل الخلافات ما زالت بنظر الجميع ضرورة وطنية.
الحرب الأهلية قد تبدو صعبة أيضاً نظراً للانسجام الديني العرقي والطائفي في فلسطين، وهذا الأمر يمكن أن يشكل رغم الخلافات السياسية سداً منيعاً في وجه الحرب والاقتتال، ويحصر الأمر في نزاعات أو صراعات واشتباكات محدودة وجانبية يمكن محاصرتها والحد من أضرارها وتداعياتها. وإضافة إلى ذلك، ثمة حالة من التوازن حاصلة الآن بين حماس وفتح، حيث تبدو الأولى قوية ومسيطرة في قطاع غزة وضعيفة في الضفة الغربية والعكس صحيح بالنسبة إلى حركة فتح، وهذا الأمر سيراكم بالتأكيد صعوبات إضافية أمام الاقتتال الداخلي ويزيد فرص المصالحة والحوار، ولو من باب المصلحة الفئوية الضيقة فضلاً عن المصلحة الوطنية الواسعة.
* كاتب فلسطيني