رشيد أسعد *
«نحن لا نتفاوض مع الشر، بل نهزمه». هذا ما قاله نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني مستوحياً كلامه من وضع رئيسه جورج بوش كوريا الشمالية ضمن محور الشر. لكن، كيف هي الحال إذا أصبح هذا الشر نووياً بكل ما في الكلمة من معنى؟ إضافة إلى امتلاكه ترسانة من الصواريخ البالستية يمكنها أن تطال معظم آسيا وأميركا الشمالية حتى ألاسكا.
خلال الحرب الكورية، هددت الولايات المتحدة باستخدام سلاحها النووي، ما جعل الرئيس الكوري السابق كيم إيل سونغ يفكر بإطلاق برنامجه النووي. وقد بدأت بيونغ يانغ هذا البرنامج عام 1960 بمساعدة سوفياتية، ومن ثم بمساعدة صينية خلال عقدين بعد هذا التاريخ. يُشار إلى أن كوريا كانت من الموقّعين على معاهدة حظر انتشار السلاح النووي (NPT) منذ الكشف عن برنامجها النووي في البدايات.
تشكّل مدينة يونغ بيون التي تقع على مسافة 60 ميلاً شمال العاصمة بيونغ يانغ مركزاً للبرنامج النووي الكوري. يوجد في هذا المركز مفاعل صغير بقدرة 20 ميغاوات ومفاعل كبير بقدرة 200 ميغاوات كان قيد الإنشاء لكن توقف العمل به بعد اتفاق مع الدول الست عام 2003. ويُضاف إلى هذين المفاعلين تخطيط لبناء مفاعل بقدرة 800 ميغاوات. وتمتلك كوريا منشآت متفرقة أخرى لمعالجة خام اليورانيوم ولا سيما في بيونغ سان وباكون.
من زاوية تقنية، لا تكمن الخطورة في عدد المفاعلات وقدرتها، بل في موضوع معالجة اليورانيوم والوقود النووي المستنفد داخل هذه المفاعلات لإنتاج مادة البلوتونيوم الحساسة التي تشكل الوقود الأساسي لأي سلاح نووي. ومن خلال معرفة كمية اليورانيوم المعالج، في الإمكان معرفة كم يملك الرئيس الكوري كيم إيل جونغ من رؤوس نووية. وتقدر وكالة الاستخبارات الأميركية أن كوريا الشمالية دخلت النادي النووي العسكري بدايات التسعينيات من حيث بنت رأساً نووياً أو اثنين باستخدام البلوتونيوم المنتج قبل هذا التاريخ.
تحوم معظم الشبهات حول المفاعل الصغير (20 ميغاوات) في يونغ بيون، حيث يُقدّر أن في إمكانه إنتاج بلوتونيوم كافٍ لإنتاج قنبلة في السنة. ويقول الخبراء الدوليون إن كوريا خلال الاتفاق على وقف برنامجها النووي عام 1994، قامت في شكل سري بتهريب 8000 قضيب من الوقود المستنفد من هذا المفاعل حيث عالجت هذا الوقود وأنتجت ما بين 14 كلغ و24 كلغ من البلوتونيوم وهي كمية كافية لإنتاج ما بين 6 و8 قنابل نووية. يُشار إلى أنه إذا شُغّل المفاعل الكبير (200 ميغاوات)، يمكن بيونغ يانغ إنتاج حوالى 10 قنابل في السنة. لكن هذا المفاعل في حاجة إلى سنوات كثيرة لاستكمال الإنشاء ومن ثم لإنتاج البلوتونيوم.
في الخلاصة، وبتقدير منطقي، تمتلك بيونغ يانغ حتى عام 1994 أكثر من 10 قنابل (حوالى 4 قنابل من البلوتونيوم المتوافر من التشغيل، إضافة إلى ما بين 6 و8 قنابل من تهريب القضبان الـ 8000).
لكن كيف تطورت الأزمة لتصل إلى التفجير الاختباري الأخير؟
في عام 1994، وبعد إعلان الولايات المتحدة أن بيونغ يانغ أنتجت الكثير من القنابل النووية، تعرضت الأخيرة لضغط كبير من المجتمع الدولي والدول المحيطة، ما أدى إلى اتفاق على هيكلية عمل (Agreed Framework)، تقوم بموجبه كوريا بتفكيك منشآتها النووية (ولا سيما المنتجة للبلوتونيوم) مقابل أن تقوم الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية ببناء مفاعلات تعمل بالماء الخفيف، وأن تُزوّد بالكميات اللازمة من وقود النفط لتوليد الطاقة إلى حين الفراغ من بناء هذه المفاعلات. نشير إلى أن المفاعلات بالماء الخفيف لا تؤدي من زاوية تقنية إلى معالجة اليورانيوم لإنتاج البلوتونيوم، ويمكن مراقبة كميات الوقود المستخدمة وبقاياها في شكل دقيق للغاية... لكن ما كان لهذا الاتفاق أن يطبّق في شكل كامل بسبب أحداث ومجريات تلته:
علمت بيونغ يانغ تماماً أن المراقبة الدقيقة لإنتاج البلوتونيوم يجب أن ينقل تركيزها إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة عالية (أكثر من 90 في المئة) لإنتاج قنبلة باليورانيوم. فجرى الاتصال بالعالم الباكستاني عبد القدير خان المتهم ببيع التقنيات النووية في السوق السوداء لقاء مبالغ طائلة. ومقابل تقنيات الصواريخ البالستية، أعطى خان بيونغ يانغ تقنيات تخصيب اليورانيوم بواسطة أجهزة الطرد المركزي، إضافة إلى تصاميم للرؤوس النووية. ويُعتقد على نطاق واسع أن العالم الباكستاني زار كوريا الشمالية أكثر من 13 مرة فقط في عام 1997.
بعد ذلك جاءت سلسلة التجارب الكورية على الصواريخ البالستية لتزيد من تعقيد الأمور، ولا سيما عام 1998 عندما أطلقت بيونغ يانغ صاروخاً مرّ فوق اليابان ليسقط في البحر. فألغت الأخيرة تمويلها لبناء المفاعلات الكورية بقيمة مليار دولار، وبالتالي لم يتم بناء هذه المفاعلات.
في تشرين الأول من عام 2002، أعلنت الولايات المتحدة أن بيونغ يانغ تدير برنامجاً سرياً لتخصيب اليورانيوم ما اعتبرته خرقاً فاضحاً لروح اتفاق 1994، وأعلنت أنها تدير شبكة ضخمة لتزوير العملة الأميركية وتهريب المخدرات على المستوى الدولي. لذلك ألغت هذا الاتفاق من جانبها وأوقفت شحنات النفط.كرد فعل، طردت بيونغ يانغ في كانون الأول المفتشين الدوليين وفكّت الأختام وكاميرات المراقبة في منشآتها، وأعلنت انسحابها من معاهدة الحظر (NPT) في 10 كانون الثاني من العام التالي وهي الدولة الوحيدة التي قامت بذلك إلى الآن. وقالت علناً إنها أعادت العمل بمعالجة الوقود لإنتاج البلوتونيوم في كل منشآتها المتوافرة.
استمرت بعد ذلك المفاوضات بين مد وجزر إلى أن تسارعت الأحداث أخيراً، ففي 4 تموز من العام الجاري أجرت بيونغ يانغ تجربة على صاروخ تيبودونغ 2 العابر للقارات، ثم أعلنت في 3 تشرين الأول نيتها إجراء تجربة نووية أولى، وحققت ذلك في التاسع من الشهر نفسه.
(يتبع حلقة ثانية)
* خبير في الفيزياء النظرية