وائل خير *
من المحاكمات البارزة في التاريخ تلك التي وقف فيها غاليليو أمام ديوان التفتيش عام 1616. خيّره الديوان بين التراجع عن آرائه العلمية والإقرار بأن الأرض هي مركز الكون وثابتة وأن الشمس تدور، والعقوبة. رضخ العالِم وتراجع عن رأيه العلمي لكن تمتم وهو يستوي من الجثو على ركبتيه: هي مع ذلك تدور.
نستخرج من هذه الرواية ـ وهناك اليوم إجماع على أن قول غاليليو منحول ـ أمرين:
هناك رأي شخصي في الأشياء ينتج من هوى أو مصلحة وربما سببه إكراه جسدي أو ضغط معنوي أو غسل دماغ. وهناك أيضاً حقيقة موضوعية لها قوانينها الخاصة التي تسيّرها. لا محل للمزج بينهما إذ الحقيقة الموضوعية، كدوران الأرض في مثل غاليليو، لها قوانين لا تلويها الأقوال أو تحوّلها الغايات.
سأستعين بهذه المقدمة كي أنفذ إلى الفكرة الرئيسية في كلمتي التي كرمتني كوكبة من الشبان والشابات الأكفّاء الخلوقين والشجعان بالطلب مني اعتلاء منبرها متكلماً في مفصل مهم من نضالها.
اللبنانيون شعب يعاني انفصاماً حاداً. من مظاهر انفصام شخصية اللبناني أن لسانه في مكان وقدميه في مكان آخر ذلك أنك إن استمعت إلى الخطاب السياسي، في الحكم وفي المعارضة، ووقفت على آراء الأكاديميين، وإن قرأت ما ينشط الصحافيون ومالئو الصفحات الثقافية في الإعلام للدعوة إليه، وجدت إجماعاً، أو شبه إجماع على فضائل النظام السياسي الموحّد للبنان، حتى إذا انصرم يوم عمل هؤلاء في الحث على الوحدة، وهمّّوا بالعودة إلى محل سكنهم، وانسابوا إلى كنف رقعة من العاصمة أو لبنان تحمل لون الطائفة أو المذهب الذي يقاومونه نهاراً ويستكينون إليه ليلاًَ.
لا أظن بصيراً غاب عن ناظريه تجذّر الولاء الطائفي في لبنان. سأســــــــتــــــعين بــــشـــــواهد مختارة من غلاة العلمانيين.
ألا ترون معي انفصاماً في الشخصية ما شاهده الملايين في الاحتفال الـ82 للحزب الشيوعي اللبناني، إذ يضع الأمين العام للحزب ثبتاً بالإنجازات فجّرت إحداها أكبر قدر من تصفيق الأعضاء والحضور. من إنجازات الحزب، أعلن الأمين العام، طلب الشهيد جورج حاوي، إثر انتصار الثورة الإسلامية في إيران، أن يوزّع مع كل عدد من جريدة الحزب ملصق كبير لآية الله العظمى روح الله الخميني. لم يحل دون إشعال الحشد الماركسي القاعة تصفيقاً أن محل مديح الأمين العام للحزب الشيوعي هو صاحب نظرية ولاية الفقيه، ومطلق محاكم الخلخالي الثورية ومبطل قوانين الإصلاح الزراعي وملغي قانون العائلة لعام 1962 وملزم المرأة بالتشادور وصاحب نظرية في الحريات لا يمكن التفريق بينها وبين تلك التي سادت العهود التي انتفض عليها والتي كان الحزب الشيوعي الإيراني في عداد ضحاياها.
يمكن استلال المزيد من تلك اللحظة التلفزيونية: الإشارة إلى الأمين العام السابق للحزب أعادت إحياء مشاهد من دفن الأستاذ جورج حاوي الذي حشد كل من كان له أن يحضر من أساقفة الكنيسة التي كان ينتمي إليها، والذي جاء في تأبين مترئس الاحتفال كشف لم يجد فيه أحد من الحضور والمشاهدين غرابة: «كان جورج يغشاني للتحية في المناسبات الدينية... وكان يقول لي في الفصح المسيح قام، حقاً قام».
كان بين حضور احتفال الحزب الشيوعي الفنان زياد الرحباني الذي بلغ من شغفه بالثورة حدّ حرصه على الظهور في مناسبات عامة بالنجمة الحمراء وبـ«تي شيرت» تشي غيفارا. لكن الفنان اليساري، على غلوّه، لم يجد أي تعارض بين ماركسيته المادية ومساهمته في «القداس الإلهي الماروني» بوضع قطعة صلاة.
حسبي هذه المفارقات المستلة من ذكرى واحدة خاطفة إذ من شاء رصد التناقضات وتعقّبها فسيوفّق من دون كبير عناء الى وضع مجلدات عنها.
أسباب الانفصام
ما من شيء ينطلق من فراغ. لهذا الانفصام في الشخــــــــصية اللبنانية ما يســتــــــــند إليه في الموروث الوطني.
وطننا بلد سمته الأساسية التعدد الطائفي فيه. والتعدد يختزن الاختلاف والاختلاف يفجّر الخلاف الذي يحدو القوي على القمع والاستعلاء على من هم دونه، في المقابل نرى الضعيف يقاومه بالتملق والمداهنة وبالباطنية والتقيّة. هي قاعدة لا استثناء فيها في تاريخ البشرية لم تخرج عنها إلا المجتمعات الغربية، وحتى هنا، جزئياً وفقط منذ قرنين ويزيد، بتأثير من فلسفة عصر الأنوار التي أعلنت أن لكل إنسان، من دون استثناء، قيمة بذاته ليست مضافة إليه من الخارج، من انتماء ديني أو طبقي أو درجة علمية أو محتد اجتماعي أو أي تمييز كان. ومن التجربة الغربية المشادة على فصل السلطات، ينبثق حكم القانون الذي يفصل في الخلافات وينشر العدل باللجوء إلى محكمة موضوعية متجردة عادلة مستعينة بإجراءات سريعة وموضوعية لا تضع عقبات تحول دون لجوء أي كان، فرداً أو جماعةً، مهما رقّ وضعه وهانت منزلته، إليها.
حذر المجموعات وتربّصها في لبنان لا يحيط بكل أبعاد المأساة اللبنانية. لو كان الحذر الدافع الوحيد لاكتفت كل طائفة بإقفال أبواب حصنها ولرفعت جدران أسوارها. لكن إلى جانب التربص والحذر هناك الطمع. طمع كل طائفة بحقوق الأخرى فكل طائفة تسعى إلى نشر نفوذها على حساب أقرانها. والدولة الموحدة، حيث لا يوجد حواجز دستورية، تبقى الإطار الأمثل لنشدان السيطرة والغلبة والاغتراف من المغانم على حساب الآخرين ومن نصيبهم. الطائفة التي تشاء هضم حقوق سائر الطوائف تسعى إلى إزالة كل حاجز دستوري يحول دون تحقيق هدفها. ألم يكن هذا دافع المسيحيين وراء إنشاء دولة لبنان الكبير؟ ألا يجد دعاة الجمهورية الإسلامية في الدولة الموحدة أداة لتحقيق هدفهم على كل لبنان؟ أمن المستبعد أن يصر دعاة الدولة السنية المتأسية بدول الخليج على وحدة لبنان كي يخضعوه بأسره لرؤياهم؟
ثم هناك دافع خاص بالمسيحيين. مسيحيو لبنان، وإن تمتّعوا بلون من الحكم الخاص والاستقلال الداخلي في القرون الأخيرة، بقوا منذ الفتح الإسلامي لهذه المنطقة في العقد الرابع من القرن السابع وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، في كنف الخلافة الإسلامية ــ باستثناء عقود قليلة، هذه الذمّية باتت بعضاً من نسيجهم لا حيلة لهم من جرّائها بتصور حكم خارج مشاركة إسلامية. فحتى حين انقاد الفرنسيون لهم وأقاموا لبنان الكبير لم يستطيعوا تصور الحكم بالانفراد إذ لا بد من وجود مسلم يشاركهم السلطة لاستمداد شرعيتها منه وإلا فقدت السلطة شرعيتها. غير أن المسيحيين حرصوا على ان يكون الشريك المسلم المنشود رمزاً منزوع السلطة وهذا كان الإرث السياسي الذي طبع الحكم في لبنان طوال الفترة السابقة لاتفاق الطائف.
مفاعيل الانفصام
لهذا الانفصام، وفي ثناياه الخوف والطمع وذمّية المسيحيين، مفاعيل عاناها لبنان وسيعانيها على الدوام ما بقيت.
تنشدّ الحياة السياسية في لبنان بين حروب من جهة وأزمات من جهة أخرى. الحروب تنتهي لتبدأ بعدها فترة أزمات تؤسس بدورها لحروب وكراهية ودمار نعود بعدها لسلم متأزم وتبدأ الدوّامة من جديد.
يأخذ التوتر الدائم وسوء النية أشكالاً عدة. منها قوانين انتخابات جائرة تسرف «بجيريمندرنغ» لمصلحة طائفة وتنتهي بمجلس تشريعي يصدر القوانين خدمة لتلك الطائفة ولحلفائها لا لمصلحة وطنية جامعة.
من المجلس المشوّه تنبثق حكومة تبني إدارة تستأثر الطائفة المسيطرة بالمغانم الوظيفية والدبلوماسية والقضائية والالتزامات والصناديق والتعويضات وتلقي بالغرم على الطوائف الأخرى من ضرائب ومكوس وجبايات وإقصاء عن المنافع. لا بد من ان يؤدي الإقصاء والإجحاف إلى إفقار الطوائف المستثناة وحشرها في حدود الفاقة ودفعها إلى الهجرة فننتهي إلى تطهير عرقي سلمي.
لكن الوضع الجائر لا يمكن أن يؤدي إلى استقرار بل على العكس يؤجج التوتر لدى الفئات المستبعدة. والتوتر المستمر يسقط من يد السلطة المركزية فلا تقوى معه على الحكم وهكذا تتجمد المشاريع الإنمائية وتتردّى حقوق الإنسان وحرياته، وهذا هو بالتحديد وضع لبنان حالياً فهو آيل إلى أن يضحي أشد بلدان المنطقة تخلّفاً إنمائياً وفي مجال حقوق الإنسان المهددة باستمرار. الحريات الصحافية، على سبيل المثال، وردت على الوجه التالي في تقرير مراسلين دون حدود السنوي الذي صدر بتاريخ 30 تشرين الأول 2006. منزلة لبنان هي الـ107 في الجدول الذي يرصد حريات الصحافة والإعلام في 168 بلداً. وكانت منزلتنا لخمس سنوات خلت الـ56. وباتت الحريات الإعلامية في لبنان دون ما تجد في التوغو وليسوتو. في المجموعة العربية، بعدما كنا القدوة السّباقة بتنا في منزلة دون الكويت (74) وموريتانيا (77)، الإمارات العربية المتحدة (79) وقطر (81) والمغرب (97).
كان من المحتّم أن يكون وضع لبنان الاقتصادي والاجتماعي أشد هولاً لولا ورقة تين القطاع الخاص وتحويلات اللبنانيين في الخارج. يخشى ألا يقوى هذا المدد من الاستمرار طويلاً في ظل الحروب الإقليمية التي تجر بعض الطوائف الوطن إليها خدمة لمصالح لها ولحلفائها.
ما لم يوضع حد لهذا الخلل البنيوي فسيبقى لبنان أسير الحروب المتواصلة والتشنج والفساد والأثرة وتشرّد شبانه وهجرتهم تحت كل سماء.
هل من وسيلة لطي هذه الصفحة السوداء والخروج بلبنان من هذا الجحيم؟
طوّر علماء القانون الدستوري نظاماً أصلح للمجتمعات التعددية من نظام الدولة الموحدة. قطع هؤلاء بأن الفدرالية هي التنظيم الأمثل لها. يبدؤون بمسح الواقع ويقفون على مظاهر التنافر في المجتمعات موضع البحث: هل هي عرقية، هل هي لغوية، هل هي تاريخية، هل هي دينية أم مذهبية؟ وينطلقون منها لرسم نظام دستوري ينظم العلاقة بين هذه القوى على قاعدة تخفيف التوتر وربما إزالته بإيلاء كل فئة ضمانات دستورية وحدوداً وصلاحيات. يقيمون مؤسسات محلية تخطط وتشرّع في أطر معيّنة تطمئن كل مجموعة إليها وتخفف وربما تنزع التوتر والتربص بين المجموعات مضفيةً بذلك استقراراً هو أساس النمو الاقتصادي والخدمات الإنسانية. الفدرالية هي النظام الأكثر انتشاراً في العالم، المتطوّر منه والذي على طريق التطّور، إذ المجتمعات الكثيرة العدد التي تعيش في أوطان شاسعة متمادية أسوة بتلك الصغيرة العدد والمحدودة الرقعة، والمجتمعات ذات الخلفيات الدينية المختلفة والمتعددة الأعراق، كلها، سواء بسواء، وجدت حل أزماتها في إطار الدولة الفدرالية.
ما دفعني إلى تلبية الدعوة ومخاطبة هذا الحفل الشجاع هو ثقتي بشبان وشابات شخّصوا مرض لبنان المزمن ومالوا الى الفدرالية علاجاً له.
لا تخشوا ضآلة العدد في مرحلة عملكم الأولى هذه. لكم عزاء في أحد أروع ما جاء في العهد القديم وهو حوار بين الله وإبراهيم كثيراً ما استشهد به مارتن بوبر:
«وقال الرب إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيئتهم قد عظمت جداً... فتقدم إبراهيم وقال أفتهلك البار مع الأثيم. عسى أن يكون خمسون باراً في المدينة. أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين باراً الذين فيه. حاشا لك أن تميت البار مع الأثيم. أديان كل الأرض لا تصنع عدلاً. فقال الرب إن وجدت خمسين باراً في المدينة فإني أصفح عن المكان كله لأجلهم. فأجاب إبراهيم وقال إني قد شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد. ربما نقص الخمسون باراً خمسة، أفتهلك كل المدينة بالخمسة. فقال لا أهلك إن وجدت هناك خمسة وأربعين. فعاد يكلمه وقال عسى أن يوجد هناك أربعون. فقال لا أفعل من أجل الأربعين، فقال لا يسخط المولى فأتكلم. عسى أن يوجد هناك ثلاثون. فقال لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين. فقال إني شرعت أكلم المولى، عسى أن يوجد هناك عشرون. فقال لا أهلك من أجل العشرين. فقال لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط. عسى أن يوجد هناك عشرة. فقال لا أهلك من أجل العشرة...» (خروج 18: 20-31).
أختم بمن بدأت. يؤثر عن غاليليو غاليلي قوله: «لا يمكنني أن أؤمن بأن الله نفسه الذي وهبنا إدراكاً وعقلاً وفكراً أراد منا ألا نستخدم هذه المواهب».
* المدير التنفيذي لمؤسسة حقوق الإنسان والحق الإنساني في لبنان
[مداخلة القيت في افتتاح مؤتمر "حلف لبناننا" الاحد في 5 تشرين الثاني 2006]