ماجد عزام *
على رغم قرار هيئة الأركان في جيش الاحتلال الاسرائيلي بوقف إطلاق تسميات على عملياتها العدوانية وخاصة بعد تجربة حرب لبنان الأخيرة إلا أن الطبع غلب التطبّع وقامت هيئة الأركان بإطلاق اسم «غيوم الخريف» على عدوانها الحالي على مدينة بيت حانون في شكل خاص ومنطقة شمال قطاع غزة في شكل عام.
التخبّط الذي يضرب عميقاً قيادة جيش الاحتلال لا يقتصر فقط على الشكليات والتسميات فمعظم القادة العسكريين يتجهون إلى حملة أو عملية عسكرية جديدة وهم يعرفون مسبقاً أنها لن تحقق أهدافها ولن تفعل شيئاً أكثر من إيقاع المزيد من الضحايا الفلسطينيين الأبرياء إرضاءً لشهوة القتل والانتقام الإسرائيلية مع التذكير بأن قيادة جيش الاحتلال تتحدث عن هدفين رئيسين لعملياتها الأخيرة في قطاع غزة وهما وقف إطلاق الصواريخ على المستوطنات والمدن الاسرائيلية المجاورة للقطاع ووقف تهريب الأسلحة أو ما يوصف إسرائيلياً بوقف سيل الأسلحة المتدفق إلى قطاع غزة.
غير أن هذين الهدفين لا يفصحان عن الهدف الحقيقي والمتمثل باستعادة قدرة الردع الاسرائيلية التي تحطمت خلال الست سنوات الأخيرة وخاصة بعد حرب لبنان الأخيرة علماً أن هذا الهدف ينتصب في خلفية معظم العمليات الاسرائيلية سواء في فلسطين أو في لبنان والمنطقة.
بعد انسحاب جيش الاحتلال من جنوب لبنان صيف عام 2000 اجتهدت قيادة الأركان في كيفية منع الفلسطينيين من استخلاص العبر والاستفادة من دروس الانتصار اللبناني، وعمل رئيس الأركان آنذاك شاوول موفاز على إعداد الجيش لتوجيه ضربة ساحقة ماحقة بمجرد تحرّك الفلسطينيين لإجبار إسرائيل على التراجع والانسحاب كما حدث في لبنان، ولذلك لم يكن غريباً أن يتم إطلاق مليون رصاصة على الفلسطينيين في الأسابيع الثلاثة الأولى من عمر الانتفاضة التي كانت جماهيرية ومدنية تماماً وكالعادة فإن الاسرائيليين لم يستفيدوا من التجارب وما زالوا أسرى فكرة أو مفهوم مفاده أن ما لم يتحقق بالقوة يتحقق بمزيد من القوة.
استمرت الانتفاضة ست سنوات واضطر جيش الاحتلال إلى تكرار تجربة الانسحاب مع سابقة تفكيك المستوطنات كما حدث في قطاع غزة وشمال الضفة الغربية.
الجنرال يواف غلنات قائد المنطقة الجنوبية للاحتلال التي تضم قطاع غزة، يفكر بطريقة مشابهة لشاوول موفاز وهو يسعى منذ انتهاء حرب لبنان إلى زيادة الضغط على الفلسطينيين لمنعهم من استخلاص العبر أو الاستفادة من الدروس والبطولات التي سطّرتها المقاومة الاسلامية هناك، ولذلك لم يكن غريباً أن يُسقطوا قرابة خمسمئة شهيد وخمسة آلاف جريح فلسطيني خلال الثلاثة شهور الماضية. عندما تقوم اسرائيل بارتكاب المذابح في حق الشعب الفلسطيني أو اللبناني أو أي من الشعوب العربية الأخرى، يتساوق هذا بالتأكيد مع الطبيعة العدوانية والدموية للدولة العبرية، غير أن «غيوم الخريف» وعوضاً من التعبير عن طبيعة الكيان تحمل في طياتها تحقيق عدة أهداف على رأسها بالطبع الهدف السابق المتمثل في استعادة أو محاولة استعادة قدرة الردع الاسرائيلية، إضافة إلى التدخل الفظ في الشؤون الفلسطينية وتأجيج الخلافات الداخلية عبر الضغوط على الشعب الفلسطيني للتحرك ضد حكومة حماس وتحميلها المسؤولية عما يتعرض له من أذى وتنكيل وحصار، ولا يجب تجاهل كون عملية غيوم الخريف انطلقت بعد جلسة المجلس الوزاري الأمني المصغر التي قرر فيها دعم وضع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ومساندته وتقويته عبر الموافقة على إدخال أسلحة إلى القوات الرئاسية التابعة له، وإدخال قوات «بدر» المرابطة في الأردن لدعم أبو مازن في مواجهة حكومة حماس وفصائل المقاومة الأخرى، وكما التجارب السابقة فإن التدخلات الإسرائيلية غالباً ما ترتد سلباً على الطرف الفلسطيني المستفيد منها، الأمر الذي رأيناه أخيراً وتمثل في إزاحة الخلافات الداخلية جانباً لمصلحة التركيز على التصدي للعدوان الذي أوجد حالة من التكاتف الوطني تمنع أي طرف من مجرد التفكير في الاستفادة من العدوان لتحقيق أهداف ومصالح فئوية ضيقة.
«غيوم الخريف» تأتي كذلك بعد فترة التصعيد الإعلامي والسياسي الاسرائيلي ضد حكومة حماس وفصائل المقاومة واتهامها بالعمل الدؤوب لإنشاء بنى تحتية عسكرية جدية وحقيقية تستفيد من تجربة المقاومة اللبنانية، وفشل التصعيد السياسي والإعلامي في التحريض على المقاومة دفع إسرائيل إلى الارتقاء درجة والانتقال إلى التصعيد الميداني وزيادة التوتر في القطاع وإيصال الأمور إلى حافة الهاوية عبر التهديد بإعادة احتلال القطاع وتحديداً الشريط الحدودي الفاصل بين مصر وقطاع غزة وهذا التهديد يهدف إلى حث مصر على التدخل للعمل ضد المقاومة والتضييق على نشاطاتها وفعالياتها المختلفة، وهدف إلى دفع الرئيس الفلسطيني للتحرك والعمل على وقف إطلاق الصواريخ على المستوطنات الاسرائيلية بحجة أن ذلك يتعارض مع المصلحة الوطنية ويجلب الويلات على الشعب الفلسطيني.
«غيوم الخريف» تحمل في طياتها تعبيراً عن اليأس والإحباط الاسرائيلي من عدم القدرة على إطلاق سراح الجندي الأسير جلعاد شاليت وعلى رغم كل الضغوط والحصار الخانق المفروض على قطاع غزة عجزت إسرائيل عن استرداد شاليت ولم يستخلص القادة العسكريون العبر المناسبة وهي أن شاليت لن يتحرر بالقوة وإنما فقط عبر التفاوض والتفاهم مع المقاومة الفلسطينية على صفقة تبادل جادة وفعلية لتحقيق هذا الهدف، ويبدو أن ثمة قناعة تتبلور في إسرائيل في هذا الخصوص غير أن المنطق العسكري والجبروتي يفرض نفسه مرة أخرى على اعتبار أن الضغوط العسكرية ستساهم في تحسين موقف اسرائيل التفاوضي وتدفع الفلسطينيين إلى خفض سقف توقعاتهم ومطالبهم.
غيوم الخريف لن تعيد ربيع الجيش الاسرائيلي، إذ ولّت الأيام التي يستطيع فيها جيش الاحتلال تحقيق الانتصارات في المواجهات التي يخوضها ضد الدول والقوى الشعبية العربية، وتجربة السنوات الست للانتفاضة كما تجربة المقاومة في لبنان وحتى يوميات العدوان الاسرائيلي الأخير وتحديداً التظاهرة النسائية الفلسطينية التي نجحت في كسر الحصار الاسرائيلي على مسجد النصر وتحرير المجاهدين المحاصرين تثبت أن غيوم الخريف لن تعيد ربيع الجيش الاسرائيلي من جديد بل تصنع ربيع المقاومة وخيارها في فلسطين ولبنان والمنطقة عموماً.
* كاتب فلسطيني