محمد سيد رصاص *
تنحو بعض الأبحاث (انظر مقالة صالح ج.آغا «اليساريون العرب والليبرالية» «ردَّة» أم «عودة» جريدة الأخبار 5-9-2006) إلى ربط تحول يساريين عرب (إقرأ: ماركسيين) نحو الليبرالية بوجود «افتراضات مشتركة بين الفكر اليساري لهؤلاء من جهة، والليبرالية الأوروبية من جهة أخرى ـــ تتمثل في ـــ العداء للفكر الديني الغيبي. وينبع هذا العداء من جذور مشتركة لفكر الليبراليين واليساريين في فلسفة التنوير الأوروبية التي تدعو إلى رفض أي سلطة على الفكر غير سلطة العقل ـــ حيث ـــ نشأ اليسار الأوروبي في هذه البيئة التنويرية الغربية. كما أن (آغا) يفسر النزعة الأميركانية الموجودة الآن عند هؤلاء اليساريين السابقين بأن تحولهم نحو الليبرالية «ممزوج بحنين إلى ماض استعماري من المفترض أنه متنور، حتى إن بعض اليساريين العرب رأى في الغرب واستعماره قوة تقدم تدمر القوى التقليدية العربية وتفسح المجال أمام تطور عربي».
كان هذا الرأي، بشأن العلاقة بين الماركسية والليبرالية ووجود «نبع مشترك» لهما في (عصر الأنوار) الفرنسي في القرن الثامن عشر سائداً حتى جاء جورج لوكاتش عام 1923 في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» برأي مغاير رأى فيه أن كارل ماركس قد قام بقطيعة نقدية عبر الهيغلية مع (المادية الفرنسية) التي سمّاها «الشكل الايديولوجي للثورة البورجوازية»، متشككاً في فهم انجلز ولينين وبوخارين للماركسية أثناء محاولتهم تأسيس ما سمّوه «المادية الديالكتيكية» (لم يستعمل ماركس هذا المصطلح، ولا مصطلح المادية التاريخية) على أسس مادية عصر الأنوار الفرنسي، ومتهماً إياهم بأنهم يريدون إعادة ماركس إلى ما قطعه مع تلك المادية (ديدرو، دوهلباخ...إلخ)، التي قامت على أسسها الفلسفة الوضعية (أوغست كونت)، والتي استمد مؤسس الليبرالية جون ستيوارت ميل أسسه الفلسفية منها أثناء وضعه مذهبه الليبرالي في السياسة والاقتصاد والاجتماع. تشارك مع لوكاتش في هذا الرأي كلّ من المفكر الألماني الماركسي كارل كورش، ومؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي، وقد تعرض لوكاتش وكورش لهجوم مقذع وصريح شنّه عليهما بوخارين وزينوفييف بسبب ذلك في مؤتمر الكومنترن الخامس (حزيران ـــ تموز1924)، حيث اتهما بـ«الارتداد نحو الهيغلية القديمة»، فيما نجد غرامشي، الذي تأثر بتأكيدات الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشه على ربط ماركس بالفلسفة وهيغل يعبر عن تشكيك بانجلز وعن رفضه تصديق أن كل ما نسبه انجلز إلى ماركس «أصيل كلياً ولا يحتاج إلى إعادة نظر»، في رفض لمحاولة انجلز تحويل الماركسية إلى «علم». بدلاً من فلسفة ومنهج تحليلي، وهو ما تشارك فيه، مع انجلز، كل من لينين وبوخارين، حتى تتوجَ ذلك مع ستالين في كتابه «المادية الجدلية والمادية التاريخية» الصادر عام 1938.
في هذا الإطار، تشارك الستالينيون العرب، الذين سيطروا على الحركة الشيوعية والفكر الماركسي في البلاد العربية، مع الوضعيين في رؤية انعكاسية ميكانيكية لعلاقة الفكر بالواقع، تقول إن الفكر والمشاعر وكل الظواهر الذهنية والروحية يمكن إعادتها آلياً إلى سياق العمليات المادية، وإنها مجرد مرآة للأخيرة: من هذا المنطلق رأينا كاتباً، مثل سلامة موسى، يجمع بين المشاركة في تأسيس الحزب الشيوعي المصري في العشرينيات وبين فكر وضعي يذهب في ماديته الميكانيكية إلى حدود قصوى وبين الإعجاب بالفابية وفكر حزب العمال البريطاني الذي كان ضمن (الأممية الثانية)، المعاد تأسيسها بعد عام 1917 على أفكار مؤسس (الإشتراكية الديموقراطية) إدوارد برنشتين الذي كان تلميذاً نجيباً لإنجلز، والذي لم يختلف في نظراته الفلسفية، بخلاف السياسية والاقتصادية، عن لينين وبوخارين وستالين. وقد حصل، في فترة 1935 ــــ 1945 بعد أن وضع ستالين سياسة (الجبهة الوطنية المتحدة) في مؤتمر الكومنترن السابع، أن وجد الشيوعيون العرب أنفسهم ليس فقط في تشارك بالنظرة الفلسفية مع الليبرالية والوضعية، كان يجعلهم أقرب إلى لطفي السيد وطه حسين، بل أيضاً في تشارك سياسي مع الغرب الاستعماري ضد الفاشية والنازية، ترجم نفسه في سكوت خالد بكداش على اتفاقية حكومة (الجبهة الشعبية) الفرنسية ـــ التي كانت تضم الشيوعيين ـــ مع الأتراك على سلخ لواء اسكندرون عام 1937، وفي وقوف زعيم الحزب الشيوعي العراقي (فهد) ضد ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد البريطانيين عام 1941، وفي تبعية الشيوعيين الجزائريين للفرنسيين، ثمَ في رؤية برنامجية تقرّبية من (البورجوازية الوطنية) كما نجد في برنامج الحزب الشيوعي السوري اللبناني الصادر عن مؤتمر (كانون أول 1943)، فيما نجد أن التفارق السياسي الذي استعرَ بين الشيوعيين العرب والليبراليين، في فترة الحرب الباردة، كان على أسس سياسية ـــ اقتصادية ـــ اجتماعية محضة، ولم يمتد إلى الجوانب الفلسفية، باستثناء محاولات قدمها ماركسيون عرب مستقلون عن الأحزاب الشيوعية، مثل عبد الله العروي، أومفكرون ماركسيون فصلوا من الحزب الشيوعي مثل الياس مرقص وبالذات في كتابه «المذهب الجدلي والمذهب الوضعي»، فيما لم يقدم ياسين الحافظ حدوداً فلسفية واضحة، في نظرته إلى الماركسية، تحدد تخومها تجاه الليبرالية.
من هنا، «لم يكن غريباً أن نجد الكثير من الشيوعيين والماركسيين العرب المتسفيتين» منذ بدايات الانهيار السوفياتي عام 1989، وهم يقومون بالترحال من ستالين إلى طه حسين، ثم يتلمسون شيئاً من إدوارد برنشتين، حتى وصولهم إلى ليبرالية صريحة بعد عام 2003 ممزوجة مع مراهنة على الأميركي الذي أتى في تلك السنة بدباباته إلى بغداد، فيما لا نجد ذلك عند الماركسيين العرب، المتشربين بفكر كارل ماركس ولوكاتش وغرامشي والقاطعين معرفياً مع اللينينية ـــ الستالينية.
كان واضحاً، في فترة البيريسترويكا، أن الخلاف، بين الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي ميخائيل غورباتشوف ومسؤول منظمة موسكو للحزب بوريس يلتسين، متمحور بين (اشتراكية ديموقراطية) و(ليبرالية): كان هذا انتقالاً من غرفة الستالينية إلى غرفتين موجودتين ضمن بيت واحد، وهو ما ينطبق على انتقال الكثير من الشيوعيين الستالينيين في البلدان الصناعية المتقدمة إلى الإشتراكية الديموقراطية بعد عام 1989، وعلى انتقال العديد من نظرائهم في البلدان المتخلفة إلى الفكر الليبرالي.
الأمر: ليس «ردَة» أو «عودة» عند الشيوعيين والماركسيين العرب المتسفيتين المنتقلين بعد عام 1989 إلى الليبرالية، بل هو انتقال ضمن البيت الواحد، فيما هناك حدود كتيمة بين كارل ماركس وجون ستيوارت ميل.
* كاتب سوري