بولس خلف
إن ما تقوم به المجموعة الحاكمة ليس مجرد استفراد أو استئثار بالسلطة فحسب، بل هو انقلاب كامل في السياسة وفي الدستور. فبعدما دأبت خلال السنة ونصف السنة الماضية على نقل لبنان من موقع الى موقع نقيض في ما يخص الصراع العربي ــ الاسرائيلي، ها هي اليوم تنقضّ على أهم الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي وهو مبدأ التوافق. وتعمل في شكل آحادي على كسر الآليات الدستورية التي تحكم العلاقات بين المؤسسات ومختلف السلطات، غير آبهة بأن هذه التوازنات الدقيقة قد رست عليها البلاد بعد حرب أهلية ضروس استمرت خمس عشرة سنة وحصدت مئات آلاف القتلى والجرحى والمشردين.
بات واضحاً ان ما تسعى إليه المجموعة الحاكمة هو إخراج لبنان من حلبة الصراع العربي ــ الاسرائيلي بحجة انه يتحمل أكثر من طاقاته ودفع قسطه. العنصر الحاسم في تحديد الوجهة التي يجب ان يسلكها البلد هو «قرار» الأكثرية بأن على لبنان ان يسعى الى فك اشتباك مع العدو. طبعاً، لا يجوز التقليل من العوامل الأخرى التي دفعت المجموعة الحاكمة الى أخذ مثل هذا الخيار، ومنها علاقاتها الاقليمية والدولية ومصالحها الاقتصادية. ولكن العنصر الأهم يبقى ان هذا التموضع الجديد جاء نتيجة ردة فعل على العدو الأول لهذه المجموعة، أي سوريا، وبما ان سوريا تصنّف نفسها في خندق معادٍ لإسرائيل، وتحمل لواء الممانعة والمقاومة في وجه الإملاءات الاسرائيلية والأميركية، فعلى الأكثرية ان تتجه، بالفطرة، الى الخندق المقابل.
هناك إذاً قدر كبير من الشخصانية في الخيارات السياسية للمجموعة الحاكمة. وهذا ما يفسر افتقارها الى أي مشروع جدي ومتكامل للدولة ولدورها الداخلي والخارجي. كل ما تقوم به هو استنساخ النموذجين المصري والأردني ومحاولة تطبيقها في لبنان. أي عدم إزعاج اسرائيل ومهادنتها وربما التطبيع معها إذا ما سمحت الأمور بذلك مع ما يستلزمه هذا من اللجوء الى مزيد من التشدد في الداخل. وهو بالذات ما تشهده الساحة اللبنانية اليوم. مكابرة في التعاطي مع الآخر، تجاهل للواقع الشعبي الذي لم يعد لمصلحتها، والأخطر من كل ذلك، خرق للدستور في إحدى فقراته الميثاقية التي تقول إنه لا شرعية لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.
لبنان يحكم اليوم من خلال أقلية تحمل اسم الأكثرية: اثنتان من الطوائف الرئيسية الثلاث غير ممثلة بالكامل أو من خلال تمثيل أعرج في السلطة التنفيذية.
الجانب الشخصي يتحكم أيضاً بعلاقة أهم أقطاب المجموعة الحاكمة مع رئيس الجمهورية. فطريقة التعامل مع موضوع المحكمة الدولية شابها أكثر من خرق دستوري إن لجهة التعدي على صلاحيات رئاسة الجمهورية المنصوص عليها صراحة في المادة 52 من الدستور وإن لجهة الدعوة الى عقد جلسة لمجلس الوزراء من دون مراعاة الأصول الدستورية والسياسية والبروتوكولية.
واستكمالاً للانقلاب، ها هو موضوع المحكمة الدولية يرمى في خضم الجدل الدائر في البلد في محاولة واضحة لتغيير وجهة النقاش الذي يتركّز أساساً على موضوع إنتاج سلطة مشاركة فعلية بين كل الأفرقاء. وأصبح كل من يطالب بتأليف حكومة وحدة وطنية مشتركاً في مؤامرة سورية ــ ايرانية هدفها إطاحة المحكمة الدولية. تماماً كما كانت الحال في انتخابات ربيع 2005 عندما قيل إن كل من يصوّت ضد لوائح المجموعة الحاكمة إنما هو يصوّت مع قتلة الرئيس رفيق الحريري.
كلما زاد توتّر المجموعة الحاكمة وعدائيتها كثرت المؤشرات التي تدل على إفلاسها. إن لجوءها مجدداً الى قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري عبر التركيز على موضوع المحكمة الدولية لتعبئة شارع بدأ يجف ويطرح علامات استفهام كثيرة هو علامة ضعف. المدوّي أصبح قريباً.