حبيب فيّاض
يستمد الفعل الفلسفي ديمومته وبقاءه من انطوائه على مبادئ وغايات ثابتة في العقل والتفكير، كما من قدرته على السريان في الزمن ومحاكاته التحولات التي تعتري الأذهان والمجتمعات البشرية وفق صيرورة منتظمة يتداخل فيها ما هو كائن مع ما ينبغي ان يكون، لتولد القضية الفلسفية، من خلال ذلك، أكثر شمولاً، باعتبارها مساراً فكرياً تتسع فيه رؤية الانسان لتطال أكبر حيّز ممكن من الواقع، حيث من المفترض أن ينتج من هذه الرؤية منظومة حياة تقوم على التوحد بين الكينونات والينبغيات.
مما تقدم، لا يعود مبرراً الحديث عن موت الفلسفة أو أفولها، ذلك ان الفلسفة تبقى بثباتها وتفعل بقدرتها على التحول وتغدو حاجة بمواءمتها بين الفكر والواقع، إذ هي ليست منحازة الى الفكر دون الواقع حتى يصار الى تجاوزها متى ما تحول الواقع وتطور، ولا يمكن كونها مجرد انعكاس لواقع جامد بعيداً من تأثيرات الفكر وتحولاته، بل هي نوع من التماهي بين معلومات كامنة في الذات ومجهولات عصية على الفهم تعرض على الموضوع، وهي نتاج تفاعل دائم بين تفكير يتطلع الى كليات قابلة للانطباق على واقعيات عديدة مهما تباينت جزئياتها وتعاقبت حوادثها.
غير ان ما تقدم، لا يتنافى مع ضرورة الاعتراف بواقع مأزوم تعيشه الفلسفة في عالمنا العربي والاسلامي الراهن، وذلك نتيجة التمسك بالفلسفة التقليدية المتمحورة على الوجود وما ورائياته ومقولاته المفرطة في التجريد والطوباوية والانفصال عن الواقع، وذلك مقابل الابتعاد عن الفلسفات الحديثة التي تضاف الى العلوم الحية وتدور حول موضوعاتها من قبيل: فلسفة العلم، اللغة، الدين، التاريخ، الأخلاق، السياسة، و...
وإذا كان النمط الأول من التفلسف قد أدى قسطه للعلى على مدى مراحل مختلفة من حياة البشر، فإن مشكلته الراهنة تكمن في استنفاد مسائله وجمود معالجاته والتقصير في تحويل تساؤلاته الكبرى التي لازمت الانسان منذ بداياته الى موجهات لسلوك الأنسان وإنجازاته، فضلاً عن تفكيره في الحياة والمجتمع.
أما النمط الثاني من التفلسف، أي الفلسفات المضافة، فهو نتيجة تطور العقل وإصراره على دور الرقابة والتقويم لكل ما يحيط به، وذهابه الى ضرورة الربط بين «مطلقية» الوجود التي تشكل موضوعاً عاماً للفلسفة و«محدودية» العلوم التي تشكل موضوعات متباينة لهذه الفلسفات، التي يجمع بينها الإطلاق والشمول فيما تفصل بينها الحدود والرسوم. ذلك ان رؤية العلوم الى موضوعاتها تختلف عن رؤية الفلسفة إليها، حيث تبقى الرؤية الأولى جزئية ومباشرة ومن قبيل نظرة الشيء إلى ذاته، فيما تأتي الرؤية الثانية كليانية وخارجية ودائمة ومن قبيل نظرة الآخر الى الأنا... فكل «أنا» يحتاج الى «آخر» حتى ينظر إليه ما خلا الفلسفة إذ هي بالنسبة إلى ذاتها «الأنا» و«الآخر» في آن، ومن هنا لم يتوان الفلاسفة عن تكرار ما يقال من أن الفلسفة أم العلوم ومستغنية عنها باعتبارها تتكفل بالحديث عن العلل والغايات والمبادئ والأبعاد الوجودية للموضوعات، فاللغة، مثلاً، تعلّمنا الكلام، لكنها لا تعلمنا لماذا نتكلم؟ ولا تجيبنا عن تساؤلات أساسية عن علاقة اللغة بالوجود، وعلاقتها بالتفكير والمعنى، وعلاقة اللغات بعضها ببعض وفق رؤية كلية وشاملة... وهكذا بالنسبة إلى سائر العلوم.
بالجملة، يمكن القول ان ما شهدته البشرية من تطور ورفاهية مرتبط، في جانب أساسي منه، بتطور الفهم الفلسفي، نتيجة تصالح الفلسفة الفعلي مع الدين من جهة والعلم من جهة ثانية... وما يقال عن موت الفلسفة يدحضه ملازمتها للتفكير حضوراً وغياباً، عمقاً وتسطيحاً، امتداداً وانكماشاً.
ما أحوجنا اليوم في عالمنا العربي والاسلامي الى فلسفة تتعدى موروثاتها وتقليديتها لتتصل بالواقع والحياة انطلاقاً من تسييل العقل والفكر... فما أكثر موضوعاتنا الفلسفية وما أقل الفلاسفة بيننا!!