أثبتت انتخابات الكونغرس النصفية الأخيرة أن التصويت في أميركا لم يعد محلياً كما يعتقد الكثير من الباحثين، وأن السياسة الخارجية باتت من الأمور التي تهم الناخب الأميركي، فقد كان لفشل السياسة المتبعة في العراق من قبل الإدارة «الجمهورية» أثر كبير على اتجاهات التصويت. والآن بعد خسارة الأغلبية في مجلسي الكونغرس والشيوخ لا بد للرئيس بوش من أخذ العبرة من النتائج، وتعديل سياسته المتبعة وإلا تعرض الجمهوريون لنكسة أخرى في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ويبدو ان الرئيس بات مستعداً لتغييرات جذرية في الشأن العراقي ومتوجّهاً نحو الأخذ بالتوصيات المقترحة من لجنة «بيكر ــ هاملتون»، ويظهر ذلك من خلال قبوله استقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وتعيين روبرت غايتس مكانه، وهو أحد أعضاء لجنة بيكر المكلفة دراسة الوضع العراقي الحالي وتقديم اقتراحات الحلول في شأنه.وكانت «لجنة بيكر» تألّفت في آذار الفائت بناء على اقتراح تقدم به «فرانك وولف» النائب الجمهوري عن ولاية فيرجينيا، على أثر زيارات متكررة قام بها الى العراق حيث التقى معظم المسؤولين العراقيين، واستمع الى العديد من الضباط الأميركيين عن «خطط خطيرة أعدتها الادارة الاميركية تتعلق بزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط والعمل على إطاحة أنظمة صديقة للولايات المتحدة» بحسب تعبيره. واستطاع «وولف» الحصول على تأييد الديموقراطيين والجمهوريين على حد سواء وخاصة بعدما تبين أن خطورة الأوضاع في العراق تحتاج الى اقتراحات واستقصاءات خبيرة محايدة، وبعدما كثُر اللغط بين وزارة الخارجية والبنتاغون حول الملف العراقي.
وقد تسرب بعض مضمون التقرير الذي أعدته اللجنة الى الصحافة الأميركية التي أوردت أن بيكر مقتنع تماماً بأن على واشنطن التفكير في بدائل مختلفة بل متناقضة مع الممارسات الحالية، معتبراً ان الانسحاب الأميركي السريع من العراق سيكون خطأ جسيماً لأنه سوف يؤدي الى حرب أهلية لم يشهد العالم لها مثيلاً، واعتبر ان «الاستمرار في النهج الحالي» قد يكون خطأ أكبر، وبين «الهروب» و«الاستمرار» هناك «خيارات صعبة» لا بد من اعتمادها، ويمكن تلخيص أول هذه الخيارات الصعبة بعبارة «الاستقرار أولاً» أي إن استقرار العراق باتت له الأولوية الكبرى وليس من الضروري للإدارة محاولة النجاح في إحلال الديموقراطية. وضمن هذا الخيار تدعو اللجنة الى أن ينصبّ تركيز القوات المسلحة على ضبط الوضع الأمني في بغداد وأن يقتصر الوجود العسكري الأميركي على منطقة بغداد الكبرى وفي قواعد أجنبية في دول مجاورة، بالاضافة الى استصدار قرار عفو «شامل» عن جميع المسلحين، على أن تنشط السفارة الأميركية في العراق في ترتيب تسوية سياسية مع المتمردين، معتبراً أنه بات من الضروري أن تفتح واشنطن حواراً مع كل من سوريا وايران حول مستقبل العراق، باعتبار أن كليهما معنيٌ مباشرة بدعم المقاومة العراقية، ولأن استقرار العراق ــ في رأيه ــ مستحيل من دون تعاون دمشق وطهران.
ويبدو أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق ــ استناداً الى خبرته الطويلة ــ مقتنع بأن التسوية السياسية ممكنة بالتعاون مع جارتي العراق، وهي وحدها تسمح بالانتقال الى «الخيار الثاني» الذي يوصي به التقرير، والذي يسميه «إعادة الانتشار والاحتواء»، أي جدولة الانسحابات الأميركية من العراق، من دون أن يحدد موعداً لهذه الانسحابات، داعياً الايرانيين والسوريين و«الأصدقاء الخليجيين» الى سد الفراغ الذي سيحدثه الانسحاب، لكنه حذر من تقسيم العراق معتبراً أن اقتراحاً كهذا سيزيد المشكلة ويعقّدها إذ من الصعب رسم حدود جغرافية بين الطوائف بسبب تداخلها. وتجدر الملاحظة أن الرئيس بوش أيضاً كان قد رفض اقتراح تقسيم العراق، معتبراً أن ذلك سوف يتسبب «بفوضى أكبر» من التي يشهدها العراق حالياً.
من هنا، يبدو أن التقسيم غير وارد الآن في العراق، ويظهر جلياً أن الادارة الأميركية بصدد الأخذ بتوصيات لجنة بايكر، والتنسيق مع الجارتين تمهيداً لانسحاب تدريجي من العراق. الأكيد أن «جيران» العراق سوف يقبضون أثماناً باهظة مقابل «تخليص الأميركيين» من جحيم العراق الدامي، والواضح أن قدر الشعوب الضعيفة تحمّل وزر سياسات الدول الكبرى وأخطائها. فبقرار أميركي وذريعة «الاستقرار» سيطر السوريون على لبنان وبقرارهم خرجوا بعد عقود، وبغطاء أميركي أيضاً شن الاسرائيليون حربهم على لبنان، وبمشيئتهم أوقفوا النار... فإذا كان الاحتلال والمآسي دامت في لبنان «الفقير» مدة ثلاثين سنة ولم تتوقف، فكم سيدوم الاحتلال، سواء كان أجنبياً أو عربياً أو فارسياً، بحجة «ضمان الاستقرار» في العراق الغني بالنفط والثروات؟ إنها توصيات بيكر من جديد، «فهلّلي يا بغداد، رستم آت».
إعداد: ليلى نقولا الرحباني