توفيق المديني *
ما يزال صدور حكم الإعدام ضد الرئيس العراقي السابق يثير جدلا ساخنا في الساحتين العراقية والعربية، وحتى الدولية أيضا، حول قانونية هذا الحكم من ناحية، وحول الإسقاطات المدمرة في حال تنفيذه، لجهة اندلاع حرب أهلية على نطاق واسع في العراق.
ويرى أفراد النخبة المثقفة العربية، والعديد من أطراف الحركة القومية العربية أن السجال السياسي والقانوني حول إعدام صدام حسين، ليس هو الموضوع الأساس في العراق، ولا سيما أن الرئيس السابق انتهى من الناحية السياسة العملية منذ سقوط بغداد في 9 نيسان/ أبريل 2003، وبالتالي منذ انهيار مؤسسات الدولة الشمولية العراقية، وتحولها ما بين يوم وليلة، إلى أثر بعد عين. ومن هذا المنطلق، فإن صدام حسين بات في حكم المنتهي منذ ذلك الوقت.
وكان الاعتقاد السائد عندما استلم حزب البعث السلطة في العراق في انقلاب تموز 1968 أن العراق يمر بمرحلة الانتقال إلى التبلور كدولة مركزية جديدة في الوطن العربي، حيث تمتلك القيادة السياسية الحاكمة فيه إرادة التحول هذه، وتعمل في اتجاه التبلور هذا. هذا الاعتقاد ليس جديدا على الساحة العربية، إذ ساد اعتقاد مماثل في عقد السبعينيات حول إمكانية الجزائر، باعتبارها بلدا منتجا للنفط، من تجنيد إمكاناتها المالية في سبيل تسريع عملية التصنيع الثقيل، غير أن الطبقة الحاكمة في الجزائر قامت ببناء نموذج هش من التصنيع، وعاجز عن توفير القدرة على الامتصاص والتخليق التكنولوجيين لمواجهة تحديات التحديث.
والحال هذه، إن الدولة العراقية الشمولية التي كانت قائمة بالفعل، لم تكن النموذج المعياري المطلوب، لأن الشكل المهيمن فيها هو مؤسسات نخبة حزبية ضيقة، أو مؤسسات نظام عقائدي على طريق النظم الشمولية السوفياتية. فمع وصول صدام حسين إلى قمة السلطة عام 1979، برزت هيمنة التكريتيين على الجيش والسلطة في العراق. وجاءت حرب الخليج الثانية 1991 لتعزز من مواقع التكريتيين داخل النظام السياسي العراقي الذي غلب عليه الطابع العسكري والأمني، حيث جاء صدام بأقربائه وأصهاره وذويه الذين يثق بهم ويضمن ولاءهم المطلق له وقلدهم أرفع المناصب العسكرية والأمنية في البلاد.
في العراق يشكل نزع السياسة عن الشعب الطريقة الضرورية بنيويا لضمان إستمرار سيطرة الدولة الشمولية على المجتمع في إطار وظيفتها داخل التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية الطرفية، حيث كانت تقوم هذه الدولة بحرب أهلية كامنة بل بحرب أهلية صريحة على افراد الشعب العراقي الذي لا يتكون من «مواطنين أحرار ومتساوين» في نظرها. وفي الوقت الذي كانت فيه مثيلات هذه الدولة الشمولية العراقية في المنظومة السوفياتية والأوروبية الشرقية تنهار، لم تدرك القيادة العراقية جديا تغير بيئة العالم باتجاه الانتقال التدريجي نحو الديموقراطية. وبهذا المعنى كانت الدولة الشمولية العراقية تدخل في دورة الاكتمال الشمولي في الوقت الذي كانت فيه هذه الدورة تندثر تاريخيا وتفقد إشعاعها حتى في وعي النخب الشيوعية الشمولية السابقة.
وكانت عملية تغوّل هذه الدولة على المجتمع وعسكرته نتيجة طبيعية لتهورات هذه الدولة الشمولية ومغامراتها العسكرية من خلال حروبها الإقليمية، التي مهّدت الطريق لقدوم الاستعمار الأميركي الجديد للمنطقة. وقد أفضت طريقة صدام حسين في التعاطي مع الجيش العراقي إلى الإجهاز على روح التماسك بين صفوف عناصره ووحداته. فتم تفتيت وحدة الجيش العراقي، وإلغاء العقيدة العسكرية للجيش التي تقوم على الدفاع عن الوطن وحماية وحدة الأمة واستبدالها بعقيدة أخرى تنصب في الدفاع عن شخص صدام حسين بوصفه «الرئيس القائد حفظه الله» وأسرته وحماية نظامه السياسي من الانهيار والاعتداء سواء من الداخل أو الخارج، وحماية ممتلكات أسرة صدام حسين.
وهكذا سلب صدام حسين الجيش العراقي أية قدرة على التحرك الذاتي أو أية إرادة للتغيير أو التمرد ونزع من قياداته روح المبادرة بفعل تعاطيه العنيف والدموي مع أية حركات انقلابية أو تمردية، فضلا عن استبعاده للعناصر والقيادات المشكوك في ولائها من الشيعة والأكراد وحتى السنة والتركمان واستبدالهم بذويه ومؤيديه من التكريتيين الذين يعتبرون الجيش وحدة خاصة على غرار الحرس الجمهوري لحراسة صدام حسين وضمان أمن واستقرار نظامه.
وحين سقطت بغداد في التاسع من نيسان 2003، انهارت معها الدولة الشمولية العراقية بطريقة درامية، وانهار معها حزبها ومؤسساتها الأمنية والعسكرية ومنظماتها ومجتمعها، لأن هذه الدولة المتغولة كانت كل شيء، وقضت على بنى المجتمع المدني الحديث التي كانت من المفترض أن تشكل خنادق الحرب المعاصرة، عندما تنهار سلطة الدولة الحديثة، على حد قول غرامشي. ويقول الفيلسوف الإيطالي إنه يمكن أن يتحطم جهاز الدولة في ظل هجوم قاس، لكن ما يحطمه المهاجمون أو الغزاة ليس سوى القشرة العليا أي «القشرة الخارجية» للدولة الحديثة. ذلك أنه ما إن يحطم المهاجمون هذه القشرة الخارجية أو يهزمون سلطة الدولة الحديثة، حتى يواجه هؤلاء المهاجمون خطا دفاعيا فعالا وصلبا، يتمثل في مؤسسات المجتمع المدني الحديث التي أصبحت بنية معقدة ومقاومة للإقتحامات المفجعة سواء منها الكوارث الاقتصادية والأزمات، أو الكوارث الحربية.
ففي حرب المواقع الحديثة التي تشكل فيها الدولة «الخندق المتقدم» أو «الخندق الخارجي»، يصبح المجتمع المدني الحديث المستقل في علاقته مع الدولة، يشكل تحصينات دائمة على جبهة حرب المواقع أي «سلسلة متماسكة من القلاع» قادرة على الدفاع والمقاومة بشكل فعال... ومن المعلوم أن النظام العراقي التسلطي قد حكم على الديموقراطية والليبرالية السياسية بوضعها في إجازة دائمة، وذلك منذ تشكله، حيث سلطة القرار في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية متمركزة في يد واحدة. وهو نظام لا يرتكز على دولة الحق والقانون، أي على دولة المؤسسات، بقدر ما عمل على تأميم المجتمع، وتحويل الشعب العراقي إلى إمّعات. ومن هذا المنظور، فالدولة التي كانت سائدة في العراق متناقضة جذريا مع المجتمع المدني.
إن التحدي الوطني الديموقراطي من وجهة نظر طموحات الطبقات الشعبية، وإن كان بشكل ضبابي، الذي يطرح مسألة التخطي الجدلي للاحتلال الأميركي ولليبرالية الأميركية المتوحشة، أساس العولمة الرأسمالية الجديدة، المهيمنة والقائمة على تمجيد السوق، من المفيد أن يؤكد على ضرورة إعادة التسييس الديموقراطي للشعب العراقي الذي نجده الآن يمارس عزوفا عن السياسة لا على أرضية الرؤى النضالية التي سادت في عهد الاستقلال، أي خطاب حركة التحرر الوطني العربية، وإنما ذلك التسييس الديموقراطي، الذي يأخذ بعين الاعتبار مسألة المجتمع المدني بتكويناته المختلفة ومؤسساته: من الأحزاب السياسية، والنقابات، والاتحادات المهنية، والجمعيات الثقافية والفكرية، ولجان حقوق الإنسان، والمجلس النيابي، ووسائل الإعلام والصحافة، ودور الانتلجنسيا الثورية القادرة على صياغة مشروع مجتمعي بديل، في سبيل أن يأخذ هذا المجتمع المدني دوره الحقيقي والملموس في صياغة القرار السياسي للدولة العراقية، ومحاسبة الحكومة.
إن إشاعة الديموقراطية في بنية المجتمع المدني العراقي الوليد، وازدياد المشاركة السياسية المنظمة من جانب الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة في إدارة الشؤون العامة للدولة، وحل المسائل الديموقراطية حلا صحيحا، وإرساء علاقات ديموقراطية حقة قائمة على الحق والمساواة والتكافؤ بين السلطة الجديدة والمجتمع المدني، هو الخيار الوطني الديموقراطي التحرري، الذي يحقق التماسك المجتمعي والسياسي والثقافي والوطني لمقاومة الاحتلال الأميركي، والدفاع عن أرض الوطن، وبناء الدولة الديموقراطية الحديثة.

* كاتب تونسي