محمد سيد رصاص*
تركز الفكر السياسي العربي، في فترة الاستعمار الأوروبي، على الإجابة عن سؤال: «لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب والمسلمون؟»، ما أدى إلى طغيانٍ للنزعة التحديثية ــ النهضوية ذات الطابع التغريبي فيما كانت النزعة الوطنية في تلك الفترة في حالة بعد عن الاتجاه التحديثي وإن وجدت حالات قليلة جمعت الاثنين (الليبرالي سعد زغلول الذي جمع في حالة عربية نادرة بين الليبرالية والوطنية)، بينما نشأت في فترة ما بعد قيام دولة اسرائيل موجة من الفكر (القومي ــ الوطني) استمرت إلى عقد السبعينيات عندما بدأت استعادة سؤال الديموقراطية الذي فرض نفسه على الجميع طوال العقود الثلاثة الماضية بمن فيهم الإسلاميون الذين كانوا في حالة من المد خلال الربع الأخير من القرن العشرين.
من الواضح، الآن، أن هذه المراحل الثلاث قد وصلت إلى منتهى معين، لم يستطع معه العرب أن يحققوا جدول أعمال تلك المراحل، إذ من الجلي أن الأبعاد الثلاثة: الوطنية ــ الديموقراطية ــ التحديث، ما زالت راهنة وغير منجزة على الصعيد العربي، وخاصة مع عودة الاحتلال إلى المنطقة العربية ممثلاً اليوم بالقطب الواحد للعالم، في ظاهرة لا نجد مثيلاً لها في مناطق أخرى من العالم، وهي الأولى من نوعها منذ انتهاء أشكال الاستعمار القديم، فيما من الواضح فشل عملية بناء الديموقراطية في البلدان العربية، أو انسداد أفقها، أو وصولها إلى شكل من (الديموقراطية المحدودة) التي يحدّد فيها الحاكم الخطوط الخضر والصفر والحمر (مصر)، بينما نجد التأخر وعدم القدرة على الدخول في عمليتي التنمية والتحديث، بخلاف دول عاشت أوضاعاً شبيهة وانطلقت من نقطة مثيلة مع انتهاء عملية الاستعمار (الهند).
منذ فترة، بدأ بعد رابع يطلُّ برأسه على السياسة العربية، هو الاقتصاد، وخاصة في الدول التي تولى (اليسار القومي ــ الوطني) زمام الأمور فيها، حيث تحصل الآن عملية تشكُّل للوحة اقتصادية ــ اجتماعية يبدو أنها تتجه إلى فرز طبقي حاد، وإلى انحسار وطحن الفئات الوسطى، فيما من الواضح نمو اتجاهات ليبرالية معارضة عند فئات التكنوقراط، والمتعلمين، والكثير من أفراد الفئات الوسطى، بالتوازي مع إرهاصات أولية للاتجاه نحو ليبرالية اقتصادية «ما»، يبديها الأغنياء الجدد الذين صعدوا اقتصادياً عبر سُلّم السلطة وتمّت عملية تراكمهم الرأسمالي من خلال سيطرتهم أو تحالفهم أو تعاونهم مع الممسكين بالقرار السياسي، في اتجاه التخلي عن نمط (رأسمالية الدولة)، أو تقييده، وإن كانت رؤيتهم السياسية لموضوع الحريات الديموقراطية أو لموضوع التحديث غير واضحة بعد، فيما ينوس هؤلاء الأخيرون بين البحث عن «شرعية دولية»، عبر تلبية متطلبات (القطب الواحد)، وبين مقاومته أو فرض شروط وأوضاع تضمن استقلالية «ما».
نجد، الآن، كيف تتوزع التيارات السياسية العربية على هذه الأبعاد الأربعة، ونادراً ما نجد تياراً يجمعها معاً، فيما نرى كيف تركز تيارات على أحدها (الوطنية = القوميون، الإسلاميون)، (الديموقراطية = الليبراليون)، أو بعضها (الديموقراطية والتحديث = الليبرالية، اليسار)، وكيف تستبعد أحدها (الوطنية = الليبرالية، التحديث = الإسلاميون)، فيما يلاحظ عدم تركيز التيارات السياسية، ما عدا اليسار، على موضوع الاقتصاد، من حيث يوجد حتى عند الليبراليين برنامج سياسي للحريات واتجاه للتحديث من دون برنامج اقتصادي واضح المعالم.يبرز الآن التداخل بين الأبعاد الأربعة التي أصبحت فارضةً لنفسها على مدارات السياسة العربية، وفي الوقت نفسه نجد العرب وقد عادوا، في الفترة الأخيرة مع سقوط بغداد بيد الاحتلال الأميركي، إلى المربع الأول (=الوطني)، الذي يبدو أنه يحدد التناقض (الطابع) الرئيس للمرحلة الراهنة، من دون إمكانية حصر المسألة في هذا البعد، كما حاول وطنيو مرحلة الاستعمار، بل هناك تداخل كبير بين الأبعاد الأربعة، وإن كان يمكن القول، في مجتمعات ما زالت تعيش مرحلة (التحرر الوطني) ولم تتجاوزها أو تحققها بعد، بأن المهمات الأخرى، أي الديموقراطية والتحديث والمنحى الاقتصادي، تتحدد عبر دلالة (الوطني)، وليس العكس.
*كاتب سوري