عصام نعمان *
أطلق أركان «قوى 14 آذار» على حركتهم في التاريخ نفسه من العام الماضي اسم «ثورة الأرز». اعترض أركان المعارضة مؤكدين أن كوندوليزا رايس هي من أطلق على حركتهم هذه التسمية. مهما كان الأمر، فإن ثورة الأرز مرشحة لاكتساب معنى انقلابياً إذا ما انزلقت إلى محاصرة القصر الجمهوري واستعمال العنف لإكراه رئيس الجمهورية إميل لحود على الاستقالة.
أركان المعارضة فاجأهم اغتيال الوزير الشاب الواعد بيار أمين الجميل وأصابهم بــــــــــشيءٍ من الارتباك. كانوا قد فرغوا للتوّ من الإعداد لتحركات شعـــــــبية سلمية كان مخططاً لها أن تشمل جميع المناطـــــــــق اللبنانية. اغتيال الجميّل اضــــــــــــطرهم الى تجميد حركتهم من دون إعطاء أي انطباع بأنهم في صدد تأجيلها. تجمـــــــــــــــيد النشاط لازمه صمتٌ شبه كامل مراعاةً لمشاعر أهل الفـــــــــــقيد وتأثراً بالحزن العام الذي لفّ البلاد. غير أن موقف الصمت أخذ يتراجع تحت وطأة كلام غير مـــــــــســــــــــؤول صدر عن قياديي قوى 14 آذار. ومع تعالي نبرة الاتهــــــــــام والتقريع في صـــــــــفوف هؤلاء وبلوغ بعضها عتبة الشتيمة الفاقعة أخذ بعض المعارضة يزيد جرعة القسوة في الردّ على الخصوم متحجّجاً بأن البادىء أظلم. لكن، ألا تعلم المعارضة، وفيها قادة مجرّبون، أن من مصلحة الجهة الأجنبية التي تقف وراء جريمة الاغتيال، ممارسة الاستفزاز بكل الوسائل المتاحة من أجل تأجيج الصراع وتحويله من صراع سياسي إلى آخر طائفي؟
مهما بالغت قوى 14 آذار في تحميل خصومها السياسيين مسؤولية ارتكاب الجريمة النكراء فإنها تبقى هي المسؤولة بالدرجة الأولى. لماذا؟ لأنها هي السلطة شكلاً ومضموناً منذ مطلع حزيران 2005، وتُمسك بمقاليد الأجهزة الأمنية كلها ولا تني تضخّمها، عدداً ومدداً. أليس لافتاً ان جميع عمليات الاغتيال ومحاولات الاغتيال جرت في عهد حكومة فؤاد السنيورة؟ أليس مثيراً للعجب والإحباط في آن معاً ان تخفق أجهزة الأمن في الإمساك بخيط واحد يقود إلى المجرمين أو إلى الجهة التي خططت للجرائم النكراء؟ وهل يكفي لوقف مسلسل الإجرام ان تنبري قوى 14 آذار مباشرةً، كما حكومتا أمريكا وفرنسا مداورةً، إلى اتهام سوريا أتوماتيكياً كلما وقع اغتيال أو عملية تخريب؟
يُخشى ألّا تبقى لهذه الأسئلة فعالية أو حتى مشروعية بعد اغتيال الجميّل وتزايد الاحتقان واتخاذه وجهة مذهبية وطائفية فاقعة. فما إن وقعت جريمة الاغتيال النكراء حتى بادرت عناصر محسوبة على حزب «القوات اللبنانية» إلى مهاجمة مكاتب حزب «التيار الوطني الحر» وشعاراته في منطقة الأشرفية وغيرها وأعملت فيها تخريباً. ذلك كله جرى وسط حملة مذهبية واسعة لإظهار العماد ميشال عون بمظهر الخارج على إرادة «الإجماع» المسيحي لمجرد أنه وقّع «ورقة تفاهم مشتركة» مع «حزب الله».
أجل، يبدو كأن المطلوب إحراج عون لإخراجه من موقفه الوطني وحمله على التسليم بقيادة القوى الأكثر تطرفاً في الوسط المسيحي وبالتالي فك تفاهمه مع حزب الله والعودة عن تأييده للمقاومة. بذلك تمارس «ثورة» الأرز عملية فرز سافرة في صفوف المسيحيين شعارها: المسيحي الجيد هو المسيحي المعادي للمقاومة!
أحسّ عون بوطأة الحملة فانتقل بخطابه السياسي إلى جادة الهدوء والتهدئة والتذكير بماضيه المعادي للوصاية السورية. بل هو لم يتوانَ عن إعلان استعداده للوقوف تحت مظلة «بكركي وسيد بكركي» لضمان الوحدة والسلامة العامة.
موقف عون المتزن والحكيم لا يعني بالضرورة تراجعاً في موقفه السياسي. إنه مجرد انحناءة لطيفة لتجاوز العاصفة بقدر محدود من المرونة. غير ان هذا التدبير المدروس لا يحجب حقيقة أن هامش حركته في الوسط المسيحي قد ضاق قليلاً، ولم يعد في مصلحته ان يكون طليعة المعارضة بالطلاقة نفسها التي كان ينتهجها سابقاً.
هذه التــــــــــطورات المــــــــــتلاحقة تلقي على المعارضة أعباء إضافــــــــــــــيـــــــــــة في مواجهة التحديات الماثلة أمامـــــــــــها. آخر التطــــــــــــورات إعلان مسؤول رفيع المستوى في إدارة بــــــــــوش ان الولايات المتحدة «مع لــــــــــــبنان وحكومة الســـــــــنيورة سياســـــــــــــياً وعسكرياً على حد سواء»، وانها تعتـــــــــزم «منح الحكومة اللبنانية مزيداً من المــــــــــــساعــــــــــدات العسكرية...». هل يصل الـــــــــــــدعم العسكري الأمــــــــــيــــــــــــــركي إلى حدّ إنزال قوات أميركية في لبنان؟
ليس من المستبعد حصول ذلك. لعل الاستخبارات المركزية الأميركية منهمكة في هذه الآونة بهندسة صدامٍ بين القوات الدولية وأفراد من سكان القرى المؤيدين لحزب الله في جنوب لبنان، تقوم بعده واشنطن بعرض «القضية» على مجلس الأمن لاستصدار قرار يعتمد الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. حتى لو تعذّر على واشنطن الحصول على القرار المطلـوب فإنها قد تُقدِم، بالتعاون مع دول مشاركة في القوات الدولية، على إنزال قوات ضاربة في أمكنة متعددة في لبنان من دون إجازة من مجلس الأمن. ألم تشن الحرب على العراق عام 2003 من دون إجازة الأمم المتحدة؟ من يقدر على الأكثر يقدر على الأقل.
إزاء هذا التحدي البازغ وغيره، ولا سيما اعتزام قوى 14 آذار «البقاء في الشارع لغاية إقرار اتفاق المحكمة الدولية في مجلس النواب»، ستجد المعارضة نفسها مضطرة إلى تسريع نزولها إلى الشارع قبل ان تسقط المبادرة من يدها. لعلها ستلجأ، في حال العودة للمبادأة، إلى إدخال تعديل محسوس على مقاربتها التحديات والمخاطر قوامه الدعوة العاجلة إلى عقد مؤتمر وطني عام لجميع القوى الحية يجري فيه تدارس التحديات الماثلة وتقرير برنامج العمل والمواجهة يقوم على الأسس الآتية:
أولاً، تأكيد التمسك باتفاق الطائف بعد أن أضحى أحكاماً مثبتة في صلب الدستور.
ثانياً، تأكيد الالتزام بالمحكمة الخاصة الدولية في إطار أحكام الدستور ذات الصلة.
ثالثاً، الالتزام الصارم بمطلب استقالة الحكومة لإخفاقها المدوّي سياسياً وأمنياً، وانتهاكها الفاضح للدستور ولشرعية ميثاق العيش المشترك، وبالدعوة الى تأليف حكومة وحدة وطنية جامعة مع صلاحية اشتراعية لإقرار قانون انتخاب على أساس التمثيل النسبي، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وإعداد البلاد نفسياً وسياسياً وعسكرياً لمواجهة عدوان إسرائيلي محتمل وشيك في إطار مخطط أميركي صهيوني للهيمنة على المنطقة من ساحل البحر المتوسط غرباً إلى ساحل بحر قزوين شرقاً.
رابعاً، التزام تحقيق المطالب والواجبات المبيّنة آنفاً بالتحاور والتشاور مع قوى 14 آذار في مهلة زمنية محدودة. وفي حال تعنّت الفريق الحاكم، الشروعُ بتحركات شعبية سلمية تكفل انتشاراً مدنياً جغرافياً واسعاً يضع الحكومة والقوى المساندة لها أمام حقيقة ساطعة هي استحالة سيطرتها على مؤسسات الدولة ومرافقها العامة والقدرة على تشغيلها، وبالتالي عجزها عن الحكم بمعزل عن قوى المعارضة وقاعدتها الشعبية الغالبة.
خامساً، اتخاذ التدابير الدستورية الملائمة لترجمة نتائج الانتفاضة الشعبية المرتقبة إلى حقائق سياسية وإدارية وأمنية واقتصادية واضحة.
غني عن البيان أن موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية تميل في هذه الآونة لمصلحة القوى الحية في البلاد. ويبدو ان هذه ستنهض إلى اغتنام الفرصة الملائمة لتحقيق «تسوية تاريخية» طال انتظارها، تضمن انتقال لبنان من نظام طوائفي مركنتيلي فاسد ومهترىء إلى دولة مدنية ديموقراطية مبنية على حكم القانون والمؤسسات والعدالة والتنمية المستدامة.
* وزير سابق