بَسكال لحود*
فَشِلَ الحوار.
لم يَجِد أبو ملحم طريقَهُ إلى ساحة النجمة «لِيُباوِسَ» الأخصام، ولا مختار «الدنيا هيك». مع أن صورةَ جوقة الحوار اكتملت بضبَّاط إيقاعها، بالتينورات العالية الصادحة «لن تنالوا»، والباريتونات الواطئةِ المُهَمدِرَة «سلِّم لي على رفيق»، وبأصحاب الصمت المدوي أيضاً...
لِمَ لَمْ تنجح أوبريت الحوار إذاً؟
لأن اللبنانيين ما عادوا يستسيغون هذا النوعَ من الزجل، وخاصةً أن زجّالة اليوم رعَوا كل خَسِّ البلد، ودقّوا لحم الوطن كبّةً في جرن الشرعية الدولية، ومَدُّوا جلد الأبرياء على الدفوف... وما عادت «ردَّة» توفيقية من نوع «وبدي باوسك إنت وخالي» ــ على قولة فيروز ــ تكفي.
كنا نحتاج إلى حوار لا أوبريت أيّها السادة، حوار يكون نهجاً (لا بنجاً) يسدُّ مزالِقَ الديماغوجية ويشدُّ فرامل الانفعال والتكاذب، فيجد فيه الصادقون دوراً غير دورِ السُذَّجِ أو المجانين أو الحيطان! ولكننا، على رغم هذه الحاجة القديمة قِدَمَ اجتماعنا السياسي المحكوم بالتحاور والتوافق، لم نُنَظِّر قط لأخلاقيات الحوار وللشروط التي تمنع التشاور من أن يصبح تراشياً أو توارشاً... شروط تضمن للحوار بقاءه تَفاكُرَ المختلفين، أي ارتضاءَهم على الأنا ــ سبحانه ــ أن ينقادَ للمنطق سواءٌ أتى من الأنا المتكلِّم أم من المخاطَب، وأن يتعرّف بالمنطق وإن التحى، وبالرجعية وإن دهنت شعرها بزيوت أجنبية.
لم يخطر لنا يوماً أن ننظِّر لشروط الحوار. لذا، وما دمنا لم نعد نجد حرجاً في الاستيراد، وما دام من عوارض السيادة حالياً أن نسلِّم أمننا للمحقِّقين الدوليين، وحدودنا للأمم المتحدة، فَلِمَ لا نستورد لفكرنا التوافقيِّ... أطيقا للنقاش.
ولعلَّ يورغن هابرماس أبرزُ المنظِّرين لهذا النوع من الأخلاقيات، ولا مجال لاتهامه بالتزلُّم لأحمدي نجاد، بل قد يكون أحد أنسبائه متطوعاً على إحدى البوارج الألمانية يأرق كل ليلة حرصاً على أمن شطآننا.
يعتبر هابرماس أنه «ينبغي للمشاركين في النقاش، أثناء محاججاتهم، أن ينطلقوا من أمر واحد مفاده أن المعنيين جميعاً إنما يشاركون مبدئياً، بوصفهم أحراراً ومتساوين، في عملية بحث تعاونية عن الحقيقة، لا قيمة فيها ولا اعتبار إلا لقوة الحجة الفضلى التي تفرض نفسها من دون إكراه».
فهلّا فحصنا حوارياتنا في ضوء هذا المبدأ، ما دمنا متأكدين أن صاحبه أجنبي أصيل لا علاقة له بالبرازق ولا بالزعفران.
نصطدم أولاً «بالنقاش» نفسه إذ هو ضَرْبٌ من الكلام لا مكان له في سياسياتنا. فالكلام السياسي عندنا إما مفرط في الفحولية والعقم وعندها لا يخجل من كونه «سجالاً»، وإما مخنَّث غيرُ قادر على إنتاج سوى التسويات الهجينة وعندها يغدو «تشاوراً».
ونصطدم ثانياً بطبيعة البضائع التي تُتَبادل مبدئياً في النقاش، فالـ«محاججة» التي يفترضها هابرماس تحتاج إلى دولة تجعل من جميعنا عُزَّلاً إلا من آرائنا، غير جوعانين سوى لخبز «الحجة الفضلى»... لئلا يتحول الحوار إلى بازار القجة الفضلى والذراع الدولية الأطول!
أما المشاركون في النقاش، فيفترض فيلسوفنا أنهم «متساوون»، ومن يمثلونهم متساوون، لا تتقزم ملايين بعضهم إلى مقام الأوهام لتتعملق دبكة الآخرين فتغدو انتفاضة. أما في حرية المتحاورين، فليُسمح لنا القول إنا نحتاج إلى كل شيء قبلها.
ولعلَّ هابرماس لم يولد في بلد رسالة كثرت فيه طوائفه وقلَّ فيه الحياءُ، ليعرف أنّ الحياء، قبل الحرية وغيرها من الكماليات، أولُ شروط النقاش.
فالحياءُ أيضاً سمة إنسانية، ولم تُعطَ لأي من الحيوانات غير اللاغية، ولعل في تلازم الحياء مع اللغو دليلاً على حاجة الكلام إليه كيما يكون إنسانياً... ينبغي إذاً التأكد من تسلح المتحاورين بالحياء منعاً لحريتهم من أن تدور بهم من شرق الفريضة إلى غرب النقيضة بسرعة تدوِّخهم، فغثيان ركاب بواسطهم يهدد بإغراق البلد بالقيء... والرجل معذور لأنه لم يجرب الغرق في قيء الجماهير الحائرة، عندما تُجبر على ان تصفِّقَ بيد واحدة لشهيدها القديم، لأن على يدِها الأخرى أن تصفِّق لقاتله التائب حديثاً. وتحارُ من أين تأتي بما يكفي من الأيدي.
أما «الحجّة الفضلى» فعِملة العقل على أراضيه لا في منافيه. ولتذكُرْ يا سيدي هابرماس أن أبرز منافيه الديموقراطية، حيث تنكَّسُ أعلام للعقل أمام جبروتِ العدد.
أما الديموقراطية التوافقية، إن كنت لا تدري، فمنفى للعقل أذَلُّ، يرتضي العقل فيه الانبطاحَ على بطنه، حيث يغطي عقل الديموقراطية رُكَبَهُ خفراً، يشدُّ التوافق أذياله إلى ما تحت كواحل الارتياء، وما تحت تحتها.
ما حوارنا يا سيدي سوى سباق رهانات: على خيول الخارج، بورصاتٍ ودولاً، وخيولِ الديموغرافيا، ولاداتٍ وهجرةً، وخيولِ الإعلام تضليلاً و... تضليلاً. لذا تراه يجري بعيداً من الطاولة... ليس تحتها كما يظن البعضُ، فبالكاد يتسع «التحتها» لعجقة الأقدام التهجيرية، والأحذية السندبادية وعكازات من يتوكّأون على تحالفات قديمة وأصوات الطوائف الأخرى.
وبالعودة إلى تحديدك فإن أكثر ما فيه سخرية وكوميديا عبارة «عملية بحث تعاونية عن الحقيقة». فبما أنك لم تربط معصم الحقيقة بشريطة زرقاء، ولم تجهش عند قولها حزناً على شهيد لبنان الأوحد (الباقون، شبِّه لنا أنهم ماتوا) والأرفع (الذي أباح الوفاء له الركوب على كل الشهداء بدءاً بِنُصبِهم)، فأنت حكماً خارج الأطيقا، وما فلسفتك سوى بازار لاأخلاقي يتحايل على المحكمة الدولية. طُقَّ ومُت.
سيدي، أعرفُ أنني ظلمتك باستقدامك إلى ساحة النجمة، فأنت حصرتَ مفاعيلَ أطيقا النقاش بالمجتمعات الديموقراطية ذات «المؤسسات الفاعلة» و«السلوكيات الحضارية»... فدعني أجد لك حلاً ريثما تجد للنقاش في لبنان موضعاً تسند إليه رأسها.
ألم تُبْقِ للآخرين ما سميته «الأخلاق الثورية»؟ فريثما نصبح على وطن... وريثما يقدَّر لنا أن ننعم بقانون انتخابي يعفينا من التصويت بأرجلنا على كل شاردة وواردة، سنأخذ بخيار الثورة. فدعك من الحوار...
وإلى الشارع دُرْ...
«دُر» هنا لا تتوجه إلى هابرماس بل إليك، أنت الذي لا تستطيع أن تتبّل الجلسة التاريخية لعشاء أطفالك، ولا أن تغزلها رادعاً لبرد الشتاء، أنت الذي لن تسلى عن ابنك المسحول تحت الردم ببطولات الدمع... أنت الذي ما عاد لديك ما تخسره أغلى من عمر أُهرق بين الملاجئ والهِدَن، بين الخوف من خلافهم فيك واتفاقهم عليك، وركضهم إلى قطع شرايينك هاتفين «يلّي بدو يصير يصير».
أنت الذي سئمت أن يغفر لهم وطن التسويات ما يعرفون أنهم يصنعون،
إلى الشارع دُرْ... فإن غيرك قد يمَّم شطر الفتنة وسَيُرَكمِجُ مجددًا على الدماء...
إلى الشارع دُر... قد تسير إلى وطن للكلام فيهِ حدٌّ أدنى من الأخلاقيات، وتجدُ لهابرماس والمؤمنين أمثاله بجدوى الحوار مرقداً لعنزة الأمل.
شمِّر عما بقي فيك من إيمان ودُرْ... فالعبور من بابل إلى العنصرة لا قادوميةَ له تلتفُّ على الجلجلة.
* كاتبة لبنانية