علي الشامي *
لم يتمكن أقطاب الاجتماع السياسي اللبناني من فتح ثغرة في الأفق المسدود للأزمة الراهنة، وقد كشف فشل التشاور الأخير بين أقطاب الحوار العتيد نوعية المأزق الذي وصلت إليه السلطة، وهو مأزق مضاعف يعكس مكابرة أطرافه على تجاوز وتجاهل موازين القوى التي أفرزتها حرب اسرائيل الأخيرة على لبنان: ففيما تميل موازين القوى الداخلية لمصلحة الأطراف التي واجهت الحرب الاسرائيلية ــ الأميركية، تعاند أطراف السلطة في احتكارها واستحواذها على القرار المؤسساتي للدولة، الأمر الذي أنتج الوجه الأول للمأزق، وفيما يصطدم المشروع الاميركي بممانعة متنامية وشاملة ويعترف أصحابه بأزمة باتت تهدد الاستراتيجيا الاميركية في الشرق الأوسط، ما زال أطراف السلطة أكثر ارتهاناً لمشروع حليفهم الخارجي وإن كان مأزقاً ومهدداً بالفشل، الأمر الذي أعطى الوجه الثاني للمأزق، ويمكن القول ان انسداد الأفق السياسي في لبنان، وفي هذا الوقت بالتحديد، ليس سوى الانكشاف الواضح لمأزق الغلبة التي تسعى الأكثرية النيابية لفرضها على الآخرين بمعزل عن التوازنات الفعلية في الداخل، وتعثّر المشروع الاميركي في المنطقة.
ويزداد هذا المأزق حدة ليس فقط بسبب تناقض منطق الغلبة وموازين القوى الداخلية والخارجية، بل أيضاً لأنه لا يغوص عميقاً في التجربة اللبنانية الخاصة ويستخلص منها الدروس وينطلق منها في عملية بناء السلطة وإدارة الدولة والمجتمع. ففي لبنان، الفريد في تركيبته، يستحيل قيام السلطة على غلبة قد تقوم على الهيمنة بحيث تبقى للأطراف الأخرى امكانية المشاركة في الحصص، ولكن الغلبة تتعارض مع أساس بنية النظام والتركيبة والاجتماع السياسي الطوائفي، لذلك يمكن توصيف المأزق الراهن بما هو مأزق الطرف الداخلي الباحث عن الغلبة بأي ثمن ومن دون اعتبار للوقائع المناهضة والمتناقضة مع موازين القوى ودروس الأزمات اللبنانية المتكررة...
واذا كانت الهيمنة، أية هيمنة، تحمل نزوعاً نحو الغلبة، فإن ما يحول دون تحقق هذا النزوع يجد أسبابه في نوعية الاجتماع اللبناني الخاص، في الدولة الطائفية والمجتمع الطوائفي، أي في التعدد الحائل دون التفرد. وقد انتهت كل محاولة للانتقال من وضعية الهيمنة الى وضعية الغلبة، الى أزمة وحروب أهلية وانكشاف كلّي على الخارج وتهديد بضياع السيادة والاستقلال.
وقد بات معلوماً، لدى ذوي الشأن والاختصاص، أن الأساس الذي قامت عليه الدولة اللبنانية، منذ ولادتها الاستقلالية الأولى، وبعد عثرات ومخاض الانتداب الفرنسي، إنما كان تجسيداً لتوازن دقيق بين القوى والمصالح الداخلية والخارجية. وفي كل مرة يهتز فيها هذا التوازن، يترنح الأساس ويغرق اللبنانيون في منازعات تنتهي الى توازن جديد بين القوى والمصالح، حمل ويحمل الصيغة المألوفة: لا غالب ولا مغلوب.
ففي المرة الأولى، قامت هذه الصيغة على الهيمنة المارونية بعدما اتكأت على انتصار فرنسي حاسم على المشروع العربي وتعزز بانتصار الحلفاء ونتائج الحرب العالمية الثانية. فأصبحت باريس مربض خيل اللبنانيين الماسكين بزمام السلطة. وبينما يعكس الميثاق الوطني طبيعة التوازن الداخلي، ثنائية المقر والممر، فإن الطرف المهيمن ظل حامداً لبذرة النزوع نحو الغلبة بانتظار اللحظة المؤاتية، الأمر الذي أفضى الى سلم أهلي بارد ومنازعات متوارية على الحصص في إدارات الدولة والموازنة وتوزيع الثروة وقطاعات الانتاج... وعندما تقدم المشروع الأميركي في عموم المنطقة، تحوّل الحليف الخارجي من فرنسي الى أميركي، واندفع كميل شمعون في اتجاه حلف بغداد أو مشروع أيزنهاور، وما استتبع ذلك من جنوح داخلي نحو استبدال الهيمنة بالغلبة الشاملة. بيد ان انفجار الوضع الإقليمي وتصدّي مصر الناصرية للمشروع الأميركي، سرعان ما وصل الى لبنان حيث طفت الى السطح المنازعات المتوارية وقامت اصطفافات داخلية موزعة على تحالفات خارجية، فكانت ثورة 1958 والأحداث التي رافقتها مزيجاً من منازعات أهلية على السلطة وتحالفات خارجية حول موقع لبنان في المتغيرات الاقليمية والدولية. ومما لا شك فيه أن التسوية المصرية ــ الاميركية أنتجت توازناً جديداً في لبنان، كان من جهة، يعد بإصلاح بنية الدولة من خلال اختيار فؤاد شهاب صاحب الرؤية الإصلاحية رئيساً للجمهورية، ومن جهة أخرى، أبقى الهيمنة المارونية مهذبة مع تقليص ملحوظ لمصلحة مشاركة سنية أكثر حضوراً وتمثيلاً.
فكانت التسوية الاقليمية الدولية مدخلاً لإعادة بناء الدولة على أساس جديد ــ قديم، هيمنة ومشاركة وباب مفتوح على كل الاحتمالات. باختصار شديد، مثلما كان العامل الخارجي سبباً لنزوع قوى الهيمنة نحو الغلبة، كان هو نفسه حاسماً في إعادة الهيمنة الى نصابها المخصص في التركيبة الداخلية، وبالتالي، فإن الطرف الداخلي لا يستطيع مهما بلغ شأنه، إدارة الدولة والمجتمع وفق شروط الغلبة، فكيف إذا كانت توازنات القوى الداخلية معاكسة لهذه الشروط. وفي المرة الثانية، وبعد محاولة فؤاد شهاب الاصلاحية إغلاق باب الاحتمالات المفتوح، اصطدمت الشهابية في تحديثها لبنية الدولة وإدخال تعديلات جوهرية على آليات اشتغالها، بأقطاب الهيمنة المارونية، والحلف الثلاثي الذين سرعان ما أجهض هذه المحاولة في منتصف الطريق، باعتبار ان نجاح التجربة الشهابية الاصلاحية سوف ينتهي بزوال الامتيازات التي كانت توفرها الهيمنة المارونية على قرار الدولة ومؤسساتها. ومن البديهي الإشارة هنا، الى ان التجربة الشهابية وإن لم تهدد نصاب الهيمنة، إلا انها كانت واعدة، على الأقل، من حيث سعيها الى مأسسة المشاركة وفتح الدولة على المناطق والطوائف الأكثر تعرضاً تاريخياً للتهميش والحرمان من منافع الدولة وخدماتها على أنواعها. وهكذا، دخل الاجتماع السياسي اللبناني في مسار منازعات أهلية معطوفة على اصطفافات خارجية كانت جميعها تشير الى أفول نجم التجربة الشهابية. وعوداً على بدء فإن أزمة الكيان البنيوية هي صراع على الحصص والهوية والسياسة الخارجية. ومنذ وصول طلائع الثورة الفلسطينية الى لبنان، اعتملت المنازعات الأهلية وترافقت مع خيارات سياسية متناقضة، ساهمت مجتمعة في تحويل لبنان مجدداً الى ساحة تصفية حسابات خارجية وصلت الى ذورتها بعد حرب تشرين 1973 والتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد، فكانت الحرب الأهلية 1975 ــ 1976، تعبيراً عن ولوج اللبنانيين في سياق دموي مرهون، كما في المرة الاولى، بتداعيات المواجهة الاقليمية ــ الدولية وكيفية وصولها الى تسوية طالت أم قصرت، تعيد اللبنانيين الى رشدهم وسلمهم الأهلي البارد.
وفي هذه المرة أيضاً، حاولت قوى الهيمنة تحقيق حلم الغلبة، فاستقوت بالاحتلال الاسرائيلي عام 1982 وتوسلته من أجل فرض رؤيتها السياسية للنصاب الداخلي للسلطة، وخيارها الالتحاق بالمحور الاسرائيلي كداعم أساسي لهذا النصاب. بيد ان التنافس السوري الاسرائيلي على موقع لبنان ودوره في صراع المنطقة، سرعان ما رجّح كفة الخيار السوري، أما في السياق الداخلي فكانت قيادة حركة أمل للمقاومة الوطنية للاحتلال الاسرائيلي من جهة وقيادتها لانتفاضة السادس من شباط 1984 من جهة ثانية، قد شرّعت أبواب الشراكة أمام الشيعة، هذه المرة، ولا سيما بعدما أرغمت قوات الاحتلال على الانسحاب نحو الشريط الحدودي في شتاء وربيع 1985. وبذلك يكون الشيعة، بعد السنّة، قد ولجوا باب المشاركة الفعلية، بعد تهميش وطول انتظار، وبعد حسم أمر حليفهم الخارجي.
وبعد غلبة لم تدم سنة واحدة، أفرزت المنازعات الداخلية والمواجهات الخارجية توازناً جديداً للقوى فرض تراتبية جديدة، في بنية السلطة، وهي تراتبية وصلت، بعد مخاض عسير، الى اتفاق الطائف بما هو توثيق للشراكة في الدستور اللبناني. وفي المرة الثالثة والراهنة، خلط اغتيال الرئيس رفيق الحريري الأوراق اللبنانية من جديد، إذ وجد اللبنانيون أنفسهم مرة أخرى أمام اصطفافات داخلية ومحاور خارجية. فرأت قوى ذات غالبية سنية ــ درزية ملحوظة في الاغتيال مناسبة لتصفية حسابات ليس فقط مع سوريا، وإنما أيضاً مع شركاء آخرين في الوطن لم يذهبوا معهم في خيارهم الخارجي، وجنحت نحو الغلبة تعويضاً من خسارة أكثر الزعماء السنّة حضوراً وقدرات وعلاقات. وعلى الرغم من ان الآخرين شعروا مثلهم بفداحة الخسارة، إلا انهم لم يوافقوا على دفع ثمن اغتيال دانوه ونظروا إليه بما هو أكثر من استهداف للسنّة بل استهداف للوطن برمته ودفعه نحو خيارات تنسجم مع شروط الاستراتيجيا الاميركية في المنطقة.
بيد ان حقل المنازعات الخارجية لم يتطابق وبيدر المنافسات الداخلية. ذلك ان الانخراط في المشروع الاميركي لم يجد ترجمة فعلية في موازين القوى الداخلية، وفي ظل عدم التكافؤ بين مصالح الخارج وحسابات الداخل وتوازناته الدقيقة، بات مأزق الغلبة الجديدة في أمسّ الحاجة الى حسم خارجي يعيد ترتيب أمور الداخل بما يتناسب والرغبة في فرض غلبة غير منقوصة، كما نادى أقطاب في الأكثرية الحاكمة. فكانت حرب تموز حسماً من الخارج في اتجاه الداخل، ولكن بنتائج معكوسة، ما زاد عمق المأزق المذكور.
وبذلك يكون المسار اللبناني الراهن تعبيراً عن وصول مأزق الغلبة الى مفترق الطرق: إما التسليم بأن موازين القوى الداخلية لا تسمح بأقل من الشراكة المشروعة بالوقائع والدستور، وإما المواجهة وإعادة صياغة الدستور وفق نتائج المواجهة. بيد ان هذه المرة تختلف عن سابقاتها بإضافة جديدة تتمثل في الاصطفاف الماروني ــ الشيعي وأكثريته التمثيلية الملحوظة، وذلك مؤشر الى الاختلال العميق في التوازنات الداخلية المانعة لأي نوع من أنواع الغلبة، فكيف إذا كانت هذه التوازنات مدعومة بهزيمة المشروع الاسرائيلي الاميركي في حرب الـ33 يوماً، وببدء مراجعة الاستراتيجيا الاميركية في الشرق الأوسط كله؟
* باحث وأستاذ جامعي