ليلى نقولا الرحباني *
لم تكد حرب تموز 2006 تنتهي، حتى عادت بعض الأصوات المطالبة بالتقسيم الى الواجهة، وإن كان البعض منها قد ظهر الى العلن خلال السنة المنصرمة في مناسبات عدة، وخاصة على أثر حوادث الاغتيالات التي تمت، وبصوت أعلى إثر حصول التفجيرات في المناطق المسيحية تحديداً، ما دفع البعض الى استعادة بعض الشعارات التي رُفعت إبان الحرب الأهلية، كالأمن الذاتي، والفيدرالية وغيرها.
قد لا تكون الفيدرالية، بحد ذاتها، أمراً مكروهاً إذا كانت نابعة من رغبة شعبية، وإذا توافرت في الدولة الاتحادية جميع مقومات الاستمرارية، إلا ان الصيغ الطائفية والمذهبية التي تُطرح الآن في لبنان، والسجل الحافل بالمآسي لبعض مطلقيها، يعيدنا بالذكرى الى مشاريع التقسيم الطائفية والمذهبية التي أراد أمراء الميليشيات فرضها على اللبنانيين خلال حروبهم العبثية.
أما اليوم، في هذا الوقت بالذات حيث يمر الوطن بظروف حرجة للغاية، وفي وقت نعيش فيه أزمة سياسية خطيرة قد تطبع نتائجها التاريخ السياسي المقبل للبنان، فإن إعادة طرح هذا النوع من المشاريع «التقسيمية» تطرح تساؤلات عدة وخاصة في ظل ما يروّج عن «الشرق الأوسط الجديد» المزمع إنشاؤه في المنطقة، بالإضافة الى ما كانت قد سوّقته الصحافة الاسرائيلية، ومنها صحيفة هآرتس التي بشّرت بـ«تغير شكل الدولة اللبنانية»، على أثر تداعيات حرب تموز الاسرائيلية على لبنان والأزمة السياسية التي فجّرتها. ويبدو أن أبطال مشاريع التقسيم هؤلاء من اللبنانيين، لم يتعلموا شيئاً من عِبر الحرب الأهلية، ولم يؤلمهم ما أنتجته من مآس، فما زال البعض يدور في الفلك نفسه، وما فتئ ينادي بالشعارات التي استخدمها خلال الحرب، وكأنه فعلاً «نام كل هذه السنوات، وعاد لينطلق من جديد من النقطة نفسها التي كان عندها في ذلك الحين»، كما صرح أحد أمراء الحرب منذ أيام.
على الرغم من تحفّظنا على مقولات «نظرية المؤامرة» التي اعتاد البعض إطلاقها، هناك في بعض الأحيان علامات شك ترتسم على بعض المواقف وتزامنها أو تطابقها مع بعض المشاريع «التآمرية» التي تُعلن من هنا وهناك، لذلك نورد في ما يلي مقتطفات من تقرير صادر عن «المنظمة الصهيونية الدولية»، نشرته مجلة «كيفونيم» الاسرائيلية في 14 شباط 1982، تستعرض فيه المنظمة استراتيجيا اسرائيل للعقدين المقبلين، فتقول:
«إن وضع مصر الحالي لم يعد يمثل مشكلة استراتيجية بالنسبة إلينا بحكم أزماتها الداخلية، فقد تلاشى تماماً الوهم بزعامة مصر للعالم العربي، كذلك فقدت تماسكها ومركزيتها، وخاصة بعد تفاقم حدة الاحتكاك بين مسيحييها ومسلميها، لذا يجب أن يكون تقسيمها الى أقاليم جغرافية متمايزة هدفنا السياسي، وعندما تصبح مصر مجزّأة، ومحرومة من السلطة المركزية، يتفكك كيان دول أخرى مثل ليبيا والسودان وغيرهما، وإن تشكل دولة قبطية في أعالي مصر، وكيانات اقليمية قليلة الأهمية هو فاتحة تطور تاريخي...
أما على الجبهة الشرقية، فتقسيم لبنان الى خمسة أقاليم، هو أمر من السهل أن يلقى صدى إيجابياً عند بعض الأطراف اللبنانية، وقد يُصور مسبقاً ما سيحدث في أرجاء العالم العربي. كذلك انشطار سوريا والعراق على أساس المعايير السكانية أو الدينية، يجب أن يكون على المدى البعيد هدفاً أولوياً لإسرائيل، علماً بأن المرحلة الأولى منه تتمثل في تحطيم القوة العسكرية لهاتين الدولتين.
إن البنى السكانية لسوريا تعرضها للتفكك، ويمكن أن يؤدي الى خلق دولة شيعية على طول الساحل الغربي ودولة سنية في منطقة حلب، وأخرى في دمشق، وكيان درزي يمكن أن يطمح إلى إنشاء دولة خاصة به، ودولة كهذه من شأنها أن تكون، على المدى البعيد، ضماننا للسلام والأمان. والعراق الغني بنفطه، من السهل وقوعه فريسة للصراعات الداخلية، وانحلاله سيكون بالنسبة إلينا، أهم من انحلال سوريا، لأن العراق يمثل أكبر تهديد لإسرائيل، في المدى المنظور. أما شبه الجزيرة العربية فمهيّأة أيضاً للتفكك تحت ضغوط داخلية، كما هي الحال في المملكة العربية السعودية بالذات، حيث يتماشى اشتداد الأزمات الداخلية وسقوط النظام الملكي، مع منطق بنيتها السياسية الراهنة.
وتعتبر المملكة الأردنية الهاشمية هدفاً استراتيجياً في الوقت الحاضر، لكنها لن تشكل على المدى البعيد تهديداً لنا بعد تفككها ونهاية الحكم الهاشمي فيها وانتقال السلطة الى يد الأكثرية الفلسطينية، وهذا ما ينبغي على السياسة الاسرائيلية أن تتطلع إليه. فهذا التغيير يعني حل مشكلة الضفة الغربية ذات الكثافة العربية الشديدة، إذ إن هجرة هؤلاء العرب الى الشرق ــ سلماً أو حرباً ــ وتجميد تناميهم الاقتصادي والديمغرافي هما ضمانة التحولات المقبلة، وعلينا بذل كل الجهود الممكنة للإسراع في هذا المسار». المؤسف أن هذا السيناريو الذي وضعه الاسرائيليون منذ ثمانينيات القرن الماضي كخطة استراتيجية للعقدين المقبلين بدأت ترتسم ملامحه اليوم، ويبدو أن هناك بعض الأطراف في لبنان من يستعجل الدخول فيه ولو بطريقة دراماتيكية ــ تعيد الى الأذهان الأجواء التي سادت عشية الحرب اللبنانية عام 1975.
وهنا يحق لنا طرح بعض الأسئلة المشروعة عن تطبيق الفيدرالية في لبنان. لو افترضنا أن الفيدرالية تحققت في لبنان، فالتقسيمات ستكون طائفية بالتأكيد، كيف سيكون شكل السلطات الاتحادية العليا، ألن تكون محاصصة بين الدويلات ــ الطائفية كما هي الآن؟ وفي المبدأ السائد عالمياً، هذه الدولة الاتحادية العليا تضطلع بالاختصاصات الخارجية باسم الدويلات، فما الذي يمنع كل دويلة من أن تقيم علاقاتها الخارجية الخاصة، وهذا بالضبط الذي ما انفكت تمارسه المجموعات اللبنانية المختلفة في ظل الدولة الموحدة؟ وعلى أي أسس سيصاغ الدستور الاتحادي؟ أنعود الى الديموقراطية التوافقية التي يتم الخروج عليها اليوم؟ الحقيقة أننا نعيش اليوم أسوأ أنواع الفيدراليات، فيدرالية الطوائف.
يبدو أن ما يُعاد إنتاجه اليوم هو مشاريع فتنة جديدة تخدم اسرائيل، يريد من خلالها أمراء الميليشيات أن يعودوا لبسط نفوذهم في الشوارع، وإرهاب الناس، والعودة الى «الخوّات»، وتبرير مقولات «التعايش بين الطوائف مستحيل» فيقتطع كل واحد منهم «غنيمة» له من الوطن، يورثها لأبنائه كما يورثه الأموال المنقولة وغير المنقولة.
انطلاقاً من السياسة الواقعية التي تعتمدها الدول، لن يكون من مصلحة أحد من الدول العربية، وخاصة المملكة العربية السعودية نجاح هذا السيناريو التقسيمي، لأسباب معروفة تتعلق ببنيتها الداخلية، وبنفوذها في لبنان وخاصة أن التقسيم سيضر بالسنّة في لبنان كما أعلن «دوري شمعون» في حديث الى الواشنطن بوست، لذلك لن تسمح لسعد الحريري بالسير في هذه المشاريع التي يريد بعض القوى المتحالفة معه أخذه إليها. لذا يمكننا أن نعتبر أن هذه المشاريع التي تطرحها بعض القوى في الأكثرية الحاكمة، ما هي إلا محاولات لاستقطاب المتطرفين في طوائفهم، بعدما فشلوا في تقديم أي شيء مفيد للبنانيين خلال ممارستهم الحكم.
* باحثة لبنانية