ماجد عزام *
يعرب العديد من المحللين والمراقبين السياسيين في إسرائيل والعالم عن دهشتهم واستغرابهم لرفض الحكومة الإسرائيلية الدعوات والنداءات المتكررة من جانب الرئيس السوري بشار الأسد لاستئناف مفاوضات السلام الإسرائيلية ــ السورية الهادفة إلى وضع حد للاحتلال الإسرائيلي للجولان كما لحالة الحرب والصراع والعداء بين الجانبين، الأمر الذي قد يؤدي في حالة حدوثه إلى تغيير وجه المنطقة كما يقول المؤيدون والمحبذون لعودة الحوار مع سوريا، وخاصة في الجانب الإسرائيلي.
الرفض الإسرائيلي، وإن بدا للوهلة الأولى مفاجئاً وغير مفهوم، إلا أن نظرة أعمق إلى التطورات الإسرائيلية الداخلية، وخاصة بعد حرب لبنان الأخيرة كما على التطورات الأخيرة في المنطقة وطريقة التعاطي الأمريكي مع تلك التطورات يقدمان صورة واضحة عن أسباب ودوافع وخلفيات الرفض الإسرائيلي المتغطرس والأهوج لنداءات السلام المتكررة من الرئيس بشار الأسد في الفترة الأخيرة.
حكومة إيهود أولمرت التي لم يمر على وجودها في السلطة سوى ستة أشهر تقريباً تشكلت على أرضية خطة الانطواء أو التجميع التي عُزم على تنفيذها في الضفة الغربية المحتلة واعتبرت مبرر الوجود السياسي لحزب كديما كما للائتلاف الحكومي الذي تشكل بعد الانتخابات الأخيرة عملاً بما بات عرفاً شائعاً في الحياة السياسية الإسرائيلية، ومفاده أن الحكومة، أي حكومة لا تستطيع القيام بعملية تسوية جادة على مسارين تفاوضيين مختلفين في الوقت نفسه وأن المجتمع الإسرائيلي غير قادر على هضم تنازلات متزامنة على الجهتين السورية والفلسطينية، وبالتالي فقد ركزت الحكومة كل جهدها على المسار الفلسطيني ولكن بالمعنى السلبي، أي إنها أعطت كل وقتها للإثبات من جديد أنه ليس هناك من شريك فلسطيني ملائم، وخاصة بعد وصول حركة حماس إلى السلطة وخلصت إلى أن اللعبة الوحيدة في المدينة هي خطة الانطواء الأحادية التي يجب على الجميع دعمها بصفتها خطوة نحو الدولة الفلسطينية ونحو إنهاء الاحتلال الذي بدأ في العام 1967 كما تقول الخطة المسماة خارطة الطريق. وهذا الجهد الإسرائيلي السلبي والدؤوب على المسار الفلسطيني لم يلحظ ولم يشر إلى أي تحرك يمكن القيام به لإحياء المسار التفاوضي الاسرائيلي السوري.
هكذا كان الحال خلال المئة يوم الأولى من عمر حكومة أولمرت التي انتهت تقريباً مع اندلاع حرب لبنان الثانية التي أدت ضمن ما أدت إليه إلى إسقاط خطة الانطواء من جدول أعمال أولمرت والحكومة الاسرائيلية وإلى حالة من التيه انتابت هذا الأخير ودفعته إلى طرح جدول أعمال جديد أو مبرر وجود سياسي تمحور ذات مرة حول تغيير نظام الحكم وكتابة دستور دائم وصولاً إلى تبني إعادة إعمار الشمال كهدف مركزي للحكومة والمجتمع، إلى أن استقر أخيراً على الملف النووي الإيراني بوصفه التهديد الوجودي الأكبر لإسرائيل وضرورة أن يحتل البند رقم واحد على جدول الأعمال السياسي ــ الحزبي، ومن أجل هذا الملف استعين بالاحتياطي السياسي والحزبي المتمثل بأفيغدور ليبرمان الذي لن يكون أداؤه مختلفاً أو مميزاً عن أداء الاحتياطي العسكري المخزي خلال حرب لبنان الثانية. ومن البديهي أن حكومة ضعيفة ومحبطة مع جدول أعمال وهمي وإعلامي فقط لا تملك الجرأة للقبول أو الموافقة على دعوات السلام السورية، وخاصة أن الثمن معروف كما يقال في إسرائيل، ويتمثل بإعادة هضبة الجولان بالكامل وحتى آخر سنتيمتر منها إلى السيادة السورية مقابل سلام كامل معها، وهو الأمر الذي لا تريده حكومة أولمرت، كما أن المجتمع الإسرائيلي لا يبدو مهيأً لتقبله، وخاصة في ظل انزياحه المستمر نحو اليمين في الفترة الأخيرة.
إضافة إلى السبب السابق يمكن الحديث عن سبب آخر قد يبدو شكلياً في ظاهره، يتمثل في أن الحكومة الإسرائيلية في الفترة الأخيرة التي شهدت تنفيذ خطة فك الارتباط عن غزة ثم حرب لبنان لا تبدو منفعلة أو متأثرة أو منتشية بأي دعوات أو أيادٍ عربية ممدودة إليها في ظل الهرولة أو الاندفاع العربي والإسلامي، وخاصة من قبل ما يسمى «محور المعتدلين»، علماً بأن وزيرة الخارجية الإسرائيلية التقت على هامش الاجتماع الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة بعشرات وزراء الخارجية العرب والمسلمين وخرجت من تلك اللقاءات باقتناع بأن ثمة تفهماً عربياً وإسلامياً واسعاً للمواقف والخطوات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان، وأن ثمة ضرورة لخلق محور معتدلين يضم دولاً عربية وإسرائيل مقابل محور المتطرفين الذي يضم وفق التصريحات الإسرائيلية سوريا وإيران وحزب الله وحركات المقاومة الفلسطينية.
الموقف الإسرائيلي الرافض لأي دعوات سلمية سورية والمستند إلى حيثيات وأبعاد داخلية يتأثر كذلك، بدرجة كبيرة، بموقف الإدارة الأميركية الرافض بشدة لأي حوار سوري إسرائيلي، وحسب وزير الأمن الداخلي آفي ديختر الذي كان مؤيداً بقوة لاستئناف المفاوضات مع سوريا وأجرى انعطافه في موقفه بعد زيارته الأخيرة لواشنطن بحجة أن الإدارة الأميركية ترفض رفضاً قاطعاً وباتاً أي حوار سوري إسرائيلي في الوقت الحالي، وتصر على ربط هذا الأمر بالتطورات أو السياق الإقليمي العام والسياسات الأميركية المتبعة في هذا الصدد التي تشترط على سوريا تنازلات أو مجموعة من الخطوات، عليها القيام بها قبل إعطاء الضوء الأخضر لاستئناف المفاوضات السورية الاسرائيلية. وهذه الخطوات تتمثل بوقف دعم حزب الله وعرقلة تنفيذ القرار 1701، وفي السياق الفلسطيني التوقف عن دعم حركة حماس والجهاد الاسلامي والضغط على حماس في ملفي الجندي الأسير جلعاد شاليت وحكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية. والشرط الثالث الذي تطرحه الإدارة الأميركية على سوريا يتمثل بالمساعدة على تهدئة الأوضاع في العراق ووقف تدفق المسلحين إلى هناك عبر سوريا. غير أن المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين لا يتحدثون في المقابل عن الثمن أو المحفزات التي يمكن تقديمها لسوريا مقابل هذه التنازلات المبنية على مقاربات مغلوطة، اللهم إلا مجرد الموافقة على استئناف المفاوضات السورية الاسرائيلية من دون تحديد خط النهاية أو الأفق الواضح لتلك المفاوضات.
الإدارة الأميركية، كما الحكومة الاسرائيلية، تشكك كذلك في نيات الحكومة السورية وتزعم أن الدعوات السلمية ليست جادة أو صادقة وتهدف فقط إلى إخراج سوريا من عزلتها العربية والدولية وإلى التخلص من الضغوط التي تمارس عليها في الملف اللبناني، وتحديداً في قضية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. الإدارة الأميركية لا ترفض المبدأ، بل ترفض الوقت والأسلوب كما قال الوزير الإسرائيلي آفي ديختر بعد لقاءاته مع المسؤولين الأميركيين الشهر الماضي، وهي تعتقد أن الانفتاح على سوريا في هذا الوقت بالذات سيضعف محور المعتدلين الذي تحاول الولايات المتحدة تأسيسه في المنطقة ويضم إسرائيل وبعض الدول والحكومات العربية لتمرير السياسات والاستراتيجيات الأميركية في المنطقة ولمواجهة ما تصفه واشنطن بمحور المتطرفين أو المحور المضاد الذي يعمل على مواجهة وتقويض المشاريع الأميركية الهادفة من وجهة نظره إلى الهيمنة على المنطقة، وبالتالي فإن رموز الإدارة يعتقدون أن أي لفتة تجاه سوريا ستفهم على أنها مكافأة لها على مواقفها متشددة في الوقت الذي لا ينجح الرئيس الفلسطيني المعتدل جداً محمود عباس في الحصول على أي لفتات أو مبادرات إسرائيلية جادة وعملية تعينه على مواجهة خصومه السياسيين وعلى رأسهم حركة حماس بالطبع.
في ظل فشل الحرب الاسرائيلية الأخيرة على لبنان والتي كانت أميركية بإمتياز، وفي ظل ضعف الحكومة الاسرائيلية وافتقار الدولة العبرية إلى زعامات وتيارات سياسية وعسكرية من الوزن الثقيل وفي ظل تزايد التحديات التي تواجهها اسرائيل داخلياً وخارجياً تبدو هذه الأخيرة مضطرة لرفض النداءات السورية والانصياع والخضوع للرغبات الأميركية، حتى ولو كانت هذه الرغبات تعود استراتيجياً بالضرر على إسرائيل ولو على المدى المتوسط والبعيد.
* مدير مكتب شرق المتوسط للصحافة والإعلام