وليد شرارة
يشكل تصريح وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني عن ضرورة تعاون إسرائيل مع دول ما سمّته «التحالف السني» في مواجهة محور حماس ـ حزب الله ـ سوريا ـ إيران إعلاناً رسمياً عن تحوّل كبير في الاستراتيجية الإسرائيلية وتخلياً عن أحد أبرز ثوابتها وهو العمل على تطويق الوطن العربي من خلال التحالف مع الدول غير العربية المحيطة به. تبلور هذا التوجه في السياسة الاسرائيلية، الذي سمي «السياسة الطرفية»، منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، فتحالفت اسرائيل مع تركيا الكمالية وإيران الشاهنشاهية وأثيوبيا هيلا سيلاسي في مواجهة صعود القومية العربية وسعت للتحالف مع التيارات القومية الانفصالية أو الدينية المتطرفة، الناشطة وسط الأقليات القومية والدينية في المنطقة. لم يمنع هذا التوجه من حصول تقاطعات بين مصالح بعض الدول العربية المحورية وإسرائيل في بعض المراحل (حرب اليمن، الحرب الأولى ضد العراق عام 1991)، لكن هذه التقاطعات لم تدفع الأخيرة الى إعادة النظر بالتوجه المذكور. عززت اسرائيل علاقاتها مع المؤسسة العسكرية التركية في مواجهة سوريا والعراق وإيران بعد الثورة الإسلامية، ومع أثيوبيا وأريتريا في مواجهة السودان ومصر. الأمر نفسه ينطبق على علاقاتها مع الحركات القومية الانفصالية في كردستان وجنوب السودان وبعض التيارات المتطرفة في الحركة الأمازيغية. ومنذ العدوان الأول على العراق عام 1991، برز تيار في الاستشراق الاسرائيلي أولاً، سرعان ما وجد له أتباع في بعض أوساط الاستشراق الغربي. ينادي بضرورة الانفتاح على الشيعة لكونهم «أقلية مضطهدة» في العراق والخليج. تبنّى المحافظون الجدد بحماسة أطروحات هذا التيار خلال إعدادهم الحرب الثانية على العراق. انقلب هؤلاء من أعداء لدودين للشيعة، يحسبونهم مجرد طابور خامس لإيران، الى دعاة للتحالف مع التشيّع لكونه تجسيداً حياً للإسلام «المعتدل» و«العقلاني» والقابل للاندماج في العالم المعاصر. وتبنّت بعض الفصائل الشيعية العراقية وبعض المثقفين الشيعة في العراق وفي بلدان أخرى هذا الخطاب الاستشراقي الخطير والتقسيمي، ورأوا فيه نوعاً من شهادة حسن سلوك غربية للشيعة ونوعاً من الاعتراف من قبل المركز الحضاري الغربي بتميزهم عن بقية المسلمين «المتزمتين» و«المتحجرين». غذّت هذه السياسة الأميركية الأوهام حول امكانية عقد صفقة تاريخية بين الشيعة والغرب على حساب السنّة. هذه المنهجية الغربية في التعاطي مع المنطقة العربية ومع مكوناتها الاجتماعية والدينية والمذهبية ليست جديدة وهي مجرد استمرارية لسياسة «فرق تسد» الاستعمارية التقليدية. أما إسباغ الصفات «الحميدة» على هذه الطائفة أو تلك الجماعة الثقافية أو الإثنية، فيرتبط بأولويات السياسة الاستعمارية في الزمان والمكان المعنيين. ففي الجزائر، رأى المستعمرون الفرنسيون في بعض الفترات أن القبائل أكثر قابلية من العرب، بسبب خصوصياتهم الأنتروبولوجية والثقافية، على تبنّي قيم الحداثة والتنوير. تبلور هذا الخطاب بعد فترة وجيزة على قيام القوات الفرنسية بارتكاب مجازر مروعة في منطقة القبائل لقمع الانتفاضة التي شهدتها. نفس السياسات اعتمدت في المشرق. فتتكرم القوى الغربية على هذه الطائفة أو تلك، المتحالفة معها، باعتبارها «متميزة» و«أكثر انفتاحاً وتسامحاً» بالمقارنة مع بقية مكونات النسيج الاجتماعي العربي إذا اقتضت مصالحها ذلك وتستبدلها بأخرى بسرعة وبسهولة منقطعة النظير اذا تبدلت المصالح. بعد الثورة الاسلامية في إيران، كان التشيع مرادفاً للتمرد في المنظور الغربي السائد، وكان الاسلام السني يعدّ عامل اعتدال واستقرار. تغيرت المقاربة بعد عمليات الحادي عشر من أيلول وبدء الإعداد للحرب على العراق. ولسخرية الأقدار، فإن نفس الإدارة الأميركية التي روّجت في السنوات الأخيرة لمقولة الاعتدال الشيعي تروّج اليوم مجدداً لمقولة الاعتدال السني.