محمد سيد رصاص *
تجاوزت، خلال السنوات الأخيرة، المعارضات الحدود (التي كان متعارفاً عليها داخل المعارضات السياسية في بلدان العالم كافة) في بلدان عربية عدة، بدءاً بالاستعانة بالخارج الدولي أو الإقليمي لفرض أو تحقيق سياساتها المحلية الخاصة (السودان)، إلى تشكيل غطاء محلي للاحتلال الأجنبي للبلد (العراق)، ووصولاً إلى معارضات في بلدان عربية عدة حاولت أو تحاول التعويل والمراهنة على صدام العامل الدولي مع النظام المحلي (أو القوى المهيمنة على الداخل) من أجل تشكيل عامل ضغط على النظام لتحقيق أجندات معينة أو من أجل تغيير الوضع القائم، مع إدارة ظهرها لعامل التوازنات القائمة التي لا تسمح لـ(المحلي) بالسيطرة على مجريات الأمور الداخلية في البلد، بعد حصول هذين الاحتمالين، وإنما لـ(الدولي).
لم نشاهد هذه الحالات (التي يبدو أنها أصبحت اعتيادية في المشهد السياسي العربي الراهن) في التاريخ الأوروبي، إلا عند المهزومين أمام الثورات الكبرى، أولاً عند آل بوربون والأرستقراطية الفرنسية المهزومة أمام قوى ثورة 1789، ثم عند الروس البيض في الحرب الأهلية (1917ــ1920) التي خاضوها ضد البلاشفة. يعطي ذلك صورة عن مقدار الانحدار النزولي الذي وصلت إليه حالة السياسة العربية، هذا الانحدار الذي لا يشمل فقط الحكام والأنظمة، وإنما يتعداهم إلى الكثير من رموز وقادة المعارضات العربية، وإلى عدد كبير من المثقفين العرب، حيث نجد هؤلاء الآن متسيّدين لأحزاب وتيارات سياسية كبرى في عدد من الأقطار العربية، ولصفحات الكثير من الصحف العربية الرئيسية، وهم إما مؤيدون لما جرى في العراق وللأجندات الأميركية في المنطقة، وإما ساكتون عنها أو أنهم يمارسون حالة السكوت عن ممارسات تلتقي وتراهن ضمناً على تحركات واشنطن في المنطقة، وإما يلتقون مع الأخيرة عندما تطرح وصفات لقضايا عربية أو لمسائل تخص علاقات ثنائية بين بلدين عربيين، وإما يتطابقون معها في طروحات فكرية ــ سياسية يمارسها الأميركيون في العراق ويروّجون لها في أقطار عربية عديدة، مثل «الديموقراطية التوافقية» أو «الوفاقية»، أو النظر إلى الوطن والديموقراطية من خلال «نظرية المكوِّنات»، وهذا ما يؤدي إلى تزاوج الليبرالية و«الديموقراطية» عندهم مع الطائفية والفئوية، وليس مع مبدأ «المواطنة» الذي قامت عليه الليبرالية عند مؤسسها جون ستيوارت ميل، وقبل ذلك الديموقراطية السياسية كما رأينا بذورها وأسسها عند توماس هوبز وجون لوك ومونتسكيو.
تطرح هذه الصورة الانحدارية إشكالية وصول السياسة العربية إلى حالة تجاوزت فيها القواعد المتعارف عليها في كل لعبة سياسية محلية داخل كل بلدان العالم، من حيث كون هذه اللعبة محكومة بقاعدة ذات نطاق وطابع داخليين محض، وممنوعاً فيها مدّ الأيدي إلى الخارج والمراهنة عليه ضد طرف داخلي آخر. هذا يؤدي باللعبة السياسية الداخلية إما إلى فرض الخارج قواعد جديدة على السياسة المحلية للبلد المعني، وإما إلى تحكّمه بها وبمجرياتها عبر وضعها في مسار معين يغلب فيه طرف آخر، الأمر الذي لا يعبّر عن مسارات سياسية تقود إليها التوازنات القائمة أو الفعلية على الأرض، وهو ما يعني نشوء قوى سياسية اصطناعية، أو بروز قوى تأخذ حجماً لا يكون انعكاساً للبيئة الاجتماعية ــ السياسية المحلية. وبالفعل، فإننا نلاحظ أن المراهنين على الخارج لا يملكون أرضية اجتماعية كافية للتغيير، أو أنهم لا يملكون التأثير، ونجدهم في الوقت نفسه لا يؤمنون بأن الفعل السياسي هو عملية إنبات طويلة المدى، لذلك ينضمون إلى العمل السياسي المعارض عندما تهبّ رياح خارجية، بعدما كانوا في الزمن الصعب للديكتاتورية في مواقع النظام أو في أحزاب موالية له أو في موقع الساكت، فيما كان غيرهم في الأقبية والزنازين والسجون والعمل السري والمنافي، وإذا كان هناك من معارضي المنافي أو السجناء السياسيين السابقين من نجده في وضعية المراهنة على الخارج، فهؤلاء يجتمع عندهم فقدان الجذور الاجتماعية مع نزعة ثأرية لا تلوي على شيء، ولا يتملّكها الوسواس السياسي حيال أية وسيلة تؤدي إلى إسقاط الوضع القائم. هذا الواقع المستجِدّ عربياً خلال السنوات الماضية يقود إلى سؤال: لمَ قواعد اللعبة السياسية هذه ما زالت محترمة وملتزماً بها في كل دول العالم إلا عند بعض العرب الآن؟ وهذا ما يقود إلى سؤال آخر: هل سبب اتجاه الحياة السياسية في أقطار عربية عدة إلى تجاوز حدود اللعبة السياسية هذه، ناتج من انفجار البنى الداخلية في بعض البلدان وتشظيها ووصولها إلى حالة التذرر المجتمعي؟
* كاتب سوري