قاسم عز الدين *
درجتُ في باريس على عادة تخطي مقال حازم صاغيّة في جريدة الحياة. كنت أقرأ أفكاره العريضة في صحف يمينية فرنسية أقل استفزازاً وأكثر احترافاً وصُنعة. في بيروت التقيت قريباً لي ظهرت عليه أمارات جديدة في الثقافة السياسية، وأثرت مقالات حازم صاغية على شيء من نباهته المعهودة.
تناولت مقال «فيما تزورنا رايس...» متوقعاً رأي حازم بزيارة رايس، إنما لا، فالعنوان مناسبة استباقية للتجريح بمنتقدي السياسة الأميركية، وهو أقرب طريق للدفاع عنها. ينصحنا حازم بألا نيأس، وإن بدت هذه الإدارة سيئة، علينا أن نقارن بسياسة ايزنهاور تجاه السويس وبسياسة جون كينيدي في انفتاحها على المنطقة. أخذنا بالنصيحة ودعونا بالتوفيق لرايس، فإذا بحازم ينصحنا بالدعاء للاحتلال. وبقراءة الجملة الأولى «مع جولة كونداليزا رايس تعاود الخرافات يقظتها» يمكن أن تعرف سرد المقال فخرافات رايس لم تخبُ لتعود وهي مستمرة على ايقاع مزامير المديح بأسلوب «الماركتينغ».
لفتني تكرار الأحكام الاخلاقية في صياغة المقال: «فهم السياسة الأميركية اسوأ منها» «مقاومتها أسوأ وأسوأ»، «كل احتلال سيئ»، «نكون نؤسس ما هو أردأ من الاحتلال» ولا أدري لماذا بدأت هذه التعابير تتوالى في كتابات المنافحين عن السياسة الأميركية بعد أن دخل «الخير والشر» إلى قاموس البيت الأبيض. إنما لا يقتصر الأخلاقي ــ الغيبي على الصياغة في مقال حازم، بل هو رسالة تثقيفية.
الأخلاقي ــ الغيبي هو في تأويل حازم صاغية «لعراك الشبان السنة والشيعة في طريق الجديدة ببيروت»، وكذلك في حكمه على ان الاحتلال «لا يقع على شعب ووطن بل على مشاريع شعوب متناحرة وعلى مشاريع أوطان متصارعة»، بل هو أيضاً في البيت القصيد «أن ثقافتنا السياسية غريبة عن فكرة الشعب والوطن» وهي كلها أحكام تبسيطية في عوارض المعلول تتعمد الإيحاء أنها تصوب على العلة.
إن عراك الشبان في طريق الجديدة هو في الاحوال «الطبيعية» خبر عادي في لبنان يتكرر في كل الأحياء الشعبية منذ عهد بعيد. هو بأية حال خبر بسيط في أية ضاحية من ضواحي باريس ولندن ونيويورك في هذه العواصم لا يقرأه غير العنصريين من دعاة صدام الحضارات قراءة دينية طائفية، والآخرون يقرأون قراءة أخرى. أما مسألة الانقسامات العصبية والشعوب المتناحرة والاوطان المتصارعة فهي مسألة في طبيعة الكون وفي طبيعية الحياة الاجتماعية والسياسية منذ آلاف السنين، لكنها ليست المعضلة ولا يظنها لعنة خاصة بنا غير المحصور بزاروب ثقافي ضيق، كما لا يطمح بإلغائها (القضاء عليها) غير المشبع بالأخلاقي ـ الغيبي، وذلك إما بإطلاق خطاب النصح والإرشاد، وإما بإطلاق مزامير «نشر الثقافة الديموقراطية» وإعادة الناس الى مدرسة يقيمها فقيه متنور.
الآخرون يدركون عبثية إلغاء مكونات التاريخ المديد كما يدركون خرافة تعايشها بغير حرب دؤوبة، وهم لهذا السبب تحديداً يقاربونها مقاربة مغايرة لمقاربة الالغاء أو التعايش يسعون الى اغراقها وتغطيتها ببناء أعلى منها وأرقى هو بناء المصلحة الوطنية (الدولة) انما هو بناء لا تقيمه المكونات العصبية بل الطبقة السياسية والقوى الاجتماعية بالاضافة للنخب وما شئت أن تضيف. هذا بناء في مشروع سياسي لا تدخله الكتل العصبية بصفتها تلك ولا تعطله بصفته أعلى منها يبدأ من بداية ما بالسياسة وليس بالأخلاقي ـ الغيبي. والتجارب في التاريخ الحديث تدل على أن البداية الفضلى هي دينامية في مواجهة العدو الخارجي وقد اخترع بعض هذه البلدان عدواً خارجياً لإطلاق دينامية بناء الدولة.
المفارقة المأساوية أن الطبقة السياسية تغسل ذنوبها بتحميل التكتلات العصبية مسؤولية بناء المصلحة العامة ومسؤوليتها في إعاقة هذا البناء والأدهى أنها تجد إلى جانبها جحافل من المثقفين يساندونها في ترويج خرافاتها. ومقال حازم صاغية هو صورة نموذجية، إذ يقول: «لكن سلاح حزب الله، إذ عطل الدولة وعرقل الاتجاه الى استقرار إقليمي، استجلب قوات دولية يرى البعض فيها شكلاً احتلالياً». للوهلة الأولى تظنه يتكلم على تعطيل الدولة في السويد وعلى عرقلة الاستقرار الإقليمي في أوروبا الشمالية، لكنه يقصد فعلاً تعطيل الدولة في لبنان والاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط. لماذا؟ «لأننا إذ نقاوم الاحتلال والسياسة الأميركية بالسلاح، ومعه التفتت، نكون نؤسس ما هو أردأ من الاحتلال بالحرب الأهلية». بصراحة لا يليق هذا الاستنتاج بكاتب مرموق. ولو أراد حازم صاغية أن يقف على الضفة الأخرى المقابلة للاحتلال (في زيارة سريعة) لرأى رؤية أكثر واقعية. فما يؤسس لحرب أهلية في العراق وفلسطين ولبنان هو مقاومة الاحتلال بالورود، وهي تؤسس لبناء سلطات ــ مزرعة بالتبعية للاحتلال، بينما تؤسس المقاومة المسلحة لبناء دولة أكبر من المزرعة وأهم من «السوبرماركت».
في العراق، وبالحك في عمق الأحداث، أسس الاحتلال لحرب أهلية عندما صادر الدولة ــ السلطة ووضع يده على سياسات تضطلع بها أي دولة. أفضى هذا الزحف على الثروة وعلى الدولة من فوق إلى زحف العصبيات ــ السلطات على ما تبقى من الدولة من تحت وحذر من غريزي لا يبقي ولا يذر تتداخل فيه كل أشكال الإجرام والانهيار، إنما لا يأمل عاقل بوقف المجازر من تحت، بل من الأعلى وبتحديد المصلحة العليا من الاحتلال ووضع اليد، ولا يظن سوى أن المقاومة بالورود هي السبيل الأمثل.
في لبنان أعاقت حزب الله بالسلاح إعادة تركيب السلطة ــ المزرعة التي تؤسس لحرب أهلية مقبلة باحتلال أو غير احتلال. عرقل استقرار المنطقة على زحف أميركي ــ إسرائيلي لمصادرة السلطات ــ الدول بوضع اليد. عرقل بالتالي انفجار زمن العصبيات من تحت. بنى سلاح حزب الله الأساس الأولي في مسار إعادة بناء دولة، حقق السيادة اللبنانية على الحدود الإسرائيلية وهي مقدمة ضرورية وغير كافية لشرعية الدولة فوق الانقسامات العصبية الداخلية إنما لم يحمل حزب الله مشروعاً متكاملاً لكل مسار إعادة بناء الدولة. لكن هل يفترض به أن يقوم وحده بسد كل الفراغات التي يخليها الآخرون؟ وما بالك إذا كان بعض الآخرين يتوخون إزالة سلاح حزب الله لإنجاح المسار؟
يتقصد حازم صاغية، لعلّة ما، إقناع الناس «بتخلفهم الثقافي». غير أن المثقف لا يجد لهم غير الخيار بين «السيئ والأسوأ» وغير الاحتلال أو الحرب الأهلية. يسلك في طريقه زواريب ضيقة ويعزف مزاميره على هذه، إنما لا تحتاج الأمور الى كل هذا الجهد الثقافي لمخاطبة الغرائز العصبية وحثها على المقاومة بالورود، بل تحتاج الى جهود مضنية لإزالة الاحتلال مدخلاً شرعياً وطـــــنياً في مسار بناء الدولة.
* مفكر لبناني