اللواء عصام أبو جمرة*
الأجواء لم تكن صافية والحرب لم تكن مستبعدة لبنانياً ولا إقليمياً ولا عالمياً. فعلى الصعيد اللبناني، لم يكن الوضع على الحدود بين لبنان وإسرائيل هادئاً حتى بعد انسحاب اسرائيل من لبنان في حزيران عام 2000، حيث بقيت المناوشات من خلال مزارع شبعا قائمة بين اسرائيل وحزب الله.
وعلى الصعيد الإقليمي، كانت الحرب الأميركية على أفغانستان، وبعدها على العراق، وتدخّلات الدول المجاورة فيها مثل سوريا وإيران، إضافةً إلى إجبار الأمم المتحدة سوريا على الانسحاب من لبنان والضغط عليها لإنهاء نفوذها فيه وفي العراق وفلسطين، وخاصة بعدما وصلت حماس إلى السلطة. ثم ظهر وتفاعل بعدئذ الصراع العالمي لمنع ايران من امتلاك السلاح النووي، هذا الصراع الذي لم تنته فصوله بعد. فمناخ الحرب كان سائداً سواء لحماية اسرائيل المباشرة أو لوقف نفوذ سوريا في المنطقة، أو لمنع ايران من امتلاك السلاح النووي..
حزب الله الذي كان يناوش اسرائيل منذ عام 1982، ونتيجة فشل الأمم المتحدة في ايجاد حل لموضوع مزارع شبعا وموضوع الأسرى العالق، أعلن أنه سوف يسترجع الأسرى اللبنانيين بعملية خطف تؤدي إلى مفاوضات تبادل أسرى. وبعد محاولة خطف سابقة لم تنجح، توصل بعملية عسكرية ثانية الى خطف جنديين اسرائيليين من داخل الخط الأزرق بنجاح لافت.
تشنّجت اسرائيل وردّت اعتبارا من 12 تموز 2006 بحرب مدمرة قذرة شنّتها على لبنان كانت أكبر بكثير مما تستدعيه عملية خطف جنديين وتخطٍّ بأمتار للخط الأزرق، بعدما محت هذا الخط تجاوزات اسرائيل المتكررة. فالرد الإسرائيلي تجاوز كثيراً الحد المعترف فيه بين الطرفين في عملية كهذه: كخطف عدد من عناصر حزب الله أو اغتيال قياديين في صفوفه أو تدمير مركز مهم للحزب.
فكانت الحرب على لبنان بهدف استعادة الجنديين الأسيرين أولاً وتجريد حزب الله من سلاحه ثانياً أقله في جنوبي نهر الليطاني. لكن بعد 34 يوماً من الحرب الضروس لم يتحقق أي من هذه الأهداف، بل لم يستطع الجيش الإسرائيلي من الوصول إلى نهر الليطاني، وتعذر عليه الاحتفاظ بمراكزه وأُجبر على الانسحاب متكبداً خسائر فادحة لا سابقة لها في تاريخه العسكري. وحققت المقاومة بذلك نصراً فريداً باهراً.
بالعودة الى تاريخ حروب اسرائيل مع العرب نجد ان هذه الحرب تختلف عن حربي 1967 و1973 اللتين وقعتا بين جيوش نظامية ربحت فيها إسرائيل بسبب تفوّق جيشها تكنولوجياً وبالمعدات والتموين. وتختلف أيضاً عن حرب 1982 ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان لكون هذه الأخيرة لم توجد على أراضيها وفي بيوتها ولم يكن سكان المنطقة مرتبطين بمقاتليها. بينما حرب تمّوز كانت بين مقاومةٍ يدعمها شعبها وجيشٍ غريب عظيم وقوي، وأثبتت فيها المقاومة انها على أرضها أعظم وأقوى من جيش كهذا.
ان التاريخ والعلم العسكري (اميركا في فيتنام، فرنسا في الجزائر، ألمانيا في فرنسا، روسيا في الشيشان، واسرائيل في لبنان) يؤكّدان أن أي جيش نظامي غريب مهما عظم شأنه، عندما يدخل إلى أرض ليست أرضه لمحاولة تجريد سكان مقاومين من السلاح، لا يتمكن من تحقيق أهدافه إلا بإفناء كل الشعب وتدمير كل المباني، وخاصة إذا كانت المقاومة مثل حزب الله عناصرها هم السكان المقيمون في المنطقة، ولديها، إضافة الى الإيمان والعقيدة، السلاح الحديث اللازم لصد هجمات العدو، وتملك كميّة هائلة من الصواريخ لضرب عمق بلد هذا العدو، الأمر الذي لم يحصل سابقاً في تاريخ الحروب الإسرائيلية مع جيرانها. فكانت هزيمتها امام المقاومة اللبنانية كارثة أنقذتها الامم المتحدة من ويلاتها. ويبقى السؤال من دفعها وغرّر بها لارتكاب هذه الحماقة؟
التقويم العسكري للمعارك على الحدود
في ما يتعلّق بالشق الميداني، إن انتشار البيوت السكنية على مساحة منطقة القتال الممتدّة على الحدود مع اسرائيل بعرض كيلومتر من مرجعيون إلى الناقورة شكّل عائقاً أساسياً للتقدّم الإسرائيلي: بيوت آهلة بالسكان المقاومين غرق فيها الجيش الإسرائيلي والنيران تُطلق عليه من أماكن عديدة ومن عيارات مختلفة سواءً كانت ضد الدبابات أو المشاة أو المروحيات أو الصواريخ التي قصفت داخل اسرائيل. فأصبح الجيش الإسرائيلي بحالة ضياع ولم يتمكّن من الوصول بدفعة كبيرة إلى جسر القاسمية أو نهر الليطاني على رغم سيطرة طائراته المطلقة وجيشه المدجج بأحدث الأسلحة..
وكان النقص في المعلومات الاستخبارية عند الجيش الإسرائيلي أمراً بارزاً على رغم اعتقاد الكثيرين بأن شبكات الموساد كانت تخترق جدار حزب الله وراء الخط الأزرق وخاصة بعد اعتقال شبكة منها قبل شهر من تاريخ وقوع الحرب. فكان من العوامل التي أفشلت الجيش الإسرائيلي، سوء التقدير من قبل قيادته لقدرات المقاومة والحسابات الخاطئة لبعض مستشاريها الذين كانوا يراهنون على مضايقة حزب الله ومحاصرته من خلال قطع الطرق والجسور ومنع وصول التموين إلى المقاتلين في الجبهات، اضافة الى الضغوط الداخلية على عائلاتهم التي نزحت إلى الداخل لإضعاف معنوياتهم.
العامل الداخلي لصمود الشعب
كان قطع الجسور ضربة اقتصادية قاسية للبنان أكثر مما هو وسيلة ضغط عسكري على المقاومة لأن الجسور جميعها يمكن تجاوزها والاستعاضة عنها بطرق آمنة غير مكشوفة للطائرات الإسرائيلية ويمكن اعتمادها لنقل الحاجات وخاصة انها كانت غير مزدحمة خلال فترة الحرب.
أما العامل الثاني من العوامل التي أدّت إلى الانتصار والذي سمح للمقاتل أن يتمتّع بالطمأنينة، هو إيواء وتموين عائلته بشكل أفضل مما كان يتصوّره الجميع. وهنا يبرز دور التيار الوطني الحرّ الذي استطاع أن يقوم بمهمّة التلقي بسبب تنظيمه سواء على الحدود أو في الداخل، فالمنسقيات منتشرة في الأحياء والمناطق والأقضية جميعها لاستيعاب الناس وتوفير أماكن سكن لهم ومباشرة فورية لتوفير حاجاتهم من الأكل والماء والمؤونة وكل ما يلزم لصمودهم. وقد بقوا 34 يوماً وسط أجواء هادئة وإيجابية جداً على رغم كل مصاعب الحرب.
وأصبح العمل المنظم والمسؤول لدى التيار الوطني الحرّ نموذجاً في الأوساط الاجتماعية ما أدى إلى التحاق الأطراف الاخرى والتمثل به. فقد أعلن قائد التيار الوطني الحر العماد عون تأييده للحكومة اللبنانية في أول يوم من الحرب وفي الوقت نفسه مباشرة استقبال الأهالي وكانت المساعدات تأتي من مصادر متعددة وتوزّع على الضيوف النازحين. لقد ساهمت هذه الظاهرة إلى حد كبير في صمود المقاوم على الحدود والشعب في الداخل.
النظرة السياسية للمقاومة
أمّا سياسياً فكان العماد عون في خطبه وكنا معه نكرر دائماً وحصراً قبل نشوب الحرب في وثيقة وفاق التيار الوطني وحزب الله، أنه لتحقيق السيادة والديموقراطية لا سلاح خارج نطاق القوى النظامية وعلى المقاومة أن تسلّمها سلاحها، ولكن من أجل تسليم هذا السلاح بتوافق وطني لا بد من إزالة أسباب وجوده، كما قال السيد حسن نصر الله خلال الاحتفال بالنصر. والأمر يتعلق بمسألتين عالقتين هما مزارع شبعا والأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، وعلى الامم المتحدة ايجاد الحل المناسب لهما. وبعد ذلك يحق لأي مسؤول أو رئيس حزب أن يطالب حزب الله وغيره من المنظمات الفلسطينية أو اللبنانية بتسليم سلاحه.... وأكدنا أن على الامم المتحدة تقع مسؤولــــــــــية الحل، لأن في موضوع مزارع شبعا هناك خــــــلافاً بيــن الدولة اللبنانية والدولة السورية والـــــدولة الإسرائــــــــيلية وهي على خلاف في ما بيـــــنها، وعلى الأمــــــم المتحدة أن تجد حلاً لهذا الخلاف، لا أن يـــــبـــــعث الامين العام للامم المــــــــــتحدة كـــــــتاباً إلى رئيس حكومة لبـــنان يطلب مــــنه فيه أن يحل المشــــــكلة مع سوريا، ولبنان وســـــوريا طرفان في هذا النزاع ومختلفان في ما بينهما..
النظرة المستقبلية لسلاح المقاومة
قناعاتنا، أولاً: يستحيل على إسرائيل ان تنزع سلاح المقاومة ولا يمكن أي لبناني أن يعلن انه كان وراء إسرائيل أو معها لتحقيق هذه الغاية.
ثانياً: يمكن سوريا أو إيران ان تنجح في سحب هذا السلاح، لكنها سوف تطلب ثمناً مرتفعاً جدّاً للقيام بذلك.
ثالثاً: الحل الافضل والاكثر قبولا هو بإزالة أسباب ومبررات وجود هذا السلاح بواسطة الأمم المتحدة ومساعدة الدولة اللبنانية على تزويد جيشها بالسلاح اللازم لفرض نفوذها على كل الاراضي اللبنانية.
لذلك بعدما صدر القرار 1701، على الأمم المتحدة أن تضع بسرعة حلاً لمسببات حمل هذا السلاح... ولكي يكون في استطاعة الدولة اللبنانية التفاهم مع المعنيين على إيجاد مكان مناسب للمقاومين في مؤسسات الدولة مثلما حصل مع الأحزاب الأخرى في التسعينيات، وعلى الاستراتيجيا الدفاعية المقررة، وعلى سبيل المثال لا الحصر: انشاء وحدات احتياط تضم الراغبين من المقاومين الذين يخضعون للتدريبات الخاصة ويُجهّزوا للقتال في أي لحظة بالتنسيق التام مع الجيش اللبناني وبإمرته... لحظة دخول الجيش الإسرائيلي أو غيره من الجيوش العدوة إلى الأراضي اللبنانية.
حكومة الوحدة الوطنية
التيار الوطني الحرّ بقيادة العماد عون زعيم المعارضة، كان أوّل من دعم الحكومة عند اندلاع الحرب تحسساً منه بمسؤولية الحرب وضرورة مجابهتها من كل اللبنانيين. في حينه كان على رئيس الحكومة أن يدعو التيار الى الدخول في الحكومة والمشاركة في تحمل المسؤولية، لكنه لم يفعل ذلك كما يحصل في الدول المتحضرة. وبعد انتهاء الحرب، كانت الفرصة مناسبة أيضاً لدعوة التيار إلى المشاركة في القرار والمساهمة في الاعمار نظراً إلى ضرورة التكاتف في عملية التعويض على المتضررين وإعادة الإعمار. لكن رئيس الحكومة أيضاً لم يفعل ولم يدع التيار للانضمام إلى الحكومة والمشاركة في مرحلة ما بعد الحرب والإصلاح وألخ...
لقد رفضنا سابقاً المشاركة في الحكومة بحصة منتقصة مفضّلين المعارضة في زمن السلم، أما بعدما وقعت هذه الحرب طالبنا بحكومة وحدة وطنية لكي توزع السلطة على الجميع ويشارك الجميع في بناء الوطن. فعندما يكون لكتلة من 72 نائباً 14 وزيراً، لا يجوز ألا يكون لكتلة أخرى من 22 نائباً أي وزير في حكومة نظام ديموقراطي يهدف إلى العيش المشترك، إذ حكومة العهد تكون مؤلّفة من الكتل النيابية جميعها وبحسب نسب الأعداد لكل من الكتل. وتتكون المعارضة ممن سقط في الانتخابات النيابية ولا يتمثل في الحكومة. أما إقصاء من نجح في الانتخابات عن الحكومة فهو هيمنة على السلطة وإلغاء للوحدة الوطنية والعيش المشترك... وليعم الاستقرار في لبنان المكوّن من طوائف عدة يجب أن تتناسب فيه الصلاحيات مع المقامات بدل أن نفرغ من مسؤول طائفة لمصلحة مسؤول طائفة أخرى مثلما حصل نتيجة اتفاق الطائف. ويجب وضع قانون انتخابي يوفّر التمثيل الصحيح للشعب اللبناني.
نتيجة حرب تموز على لبنان
بعـــــد حرب مـــــدمرة قــــــــــذرة دارت طـــــــوال 34 يــــــوماً بين حزب مـــــقـــــــاوم من شعب لبنان «حزب الله» وجيش نظـــــامي من أكبر الجيوش في العالم المجهّز بالسلاح الجوي والأرضي الأحدث:
صحيح انه تم تدمير الجسور والمنشآت والمباني في لبنان بسلاح الطيران الاسرائيلي وأُصيب حوالى خمسة آلاف لبناني بين قتيل وجريح معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وتم تهجير ونزوح مئات الألوف... الى داخل لبنان وخارجه.
لكنه بالمــــــقابل دُمّر عدد كبير من دبابات وآليات جيش اسرائيل وسقط في داخلها حوالى خمسة آلاف صاروخ دمرت بيوتاً وأســـــقــــــطت ما يزيد عــــــلى ألف قـــــــتيل وجريح من الجيش والمدنيين، وتهجّر ونزح مئات الألوف من منازلهم الى داخل اسرائيل وخارجها.
واستطاعت المقاومة ان تمنع هذا الجيش الاسرائيلي القوي من تحقيق أهدافه وألزمته بالانسحاب تحت غطاء قرارات الامم المتحدة وقواها، وحققت بذلك انتصاراً هو الأول من نوعه في منطقة الشرق الاوسط.
واستطاع الشعب اللبناني ان يحقق انتصاراً بصموده في وجه الآلة المدمرة الجوية الاسرائيلية وبدعمه المقاومة على الجبهة باستقبال النازحين من منطقة العمليات وادارة التموين في الداخل وفي منطقة العمليات طوال مدة الحرب وبعدها. واستطاع لبنان ان ينتصر على اسرائيل في المحافل الدولية بتعديل قراراتها لمصلحته، وتوفير المساعدات لإعماره، واعطاء العبرة لكثير من الدول في العالم العربي وغيره وشعوب هذه الدول وجيوشها بأن من أراد وصل ومن ضحّى وجد والويل للمعتدي مهما كبر.
في كلمة إلى شباب لبنان
الذي يريد التفكير في المستقبل، عليه أن يرجع إلى الماضي، فتاريخ لبنان مليء بالصعوبات، وإذا رجعنا بالتاريخ إلى ما قبل مئة وخمسين سنة، نرى أنه كانت هناك مشاكل تكررت كل عشر سنين تقريباً. وعلى رغم ذلك بقي لبنان وبقي اهتمام العالم به، ولا يزال لبنان حتى اليوم محط الأنظار. ان قدر لبنان بحكم موقعه الجغرافي أن يكون في منطقة نشوء الأديان وفي منطقة ينابيع البترول وهو ينتمي قومياً إليهاً، ويعتبر مدخلاً إلى الشرق الأوسط الجديد ونموذجاً للدول التي تقع في محيطه ومثلاً لتطورها.
لذلك ليس من الطبيعي أن يصاب شاب في مقتبل العمر باليأس نتيجة حرب دامت حوالى شهر واحد. فالمشاكل والحروب تحدث في كل أنحاء العالم والهزّات الاقتصادية تقع في الدول المتقدّمة أكثر مما تقع في لبنان. لقد تكلّفنا خسائر كبيرة بنتيجة هذه الحرب، لكن النتيجة كانت مشرّفة والنصر كان باهراً، فتهافت العالم لمساعدتنا واعادة اعمار ما تدمّر. فعلى الشباب أن يدركوا أن لبنان بلد مهم، أهم من أي دولة أخرى وإذا غادروه فقد يخسرون شيئاً عظيماً ومهماً. ولا يجوز أن يؤدّي أي حدث إلى فقدان آمالهم في وطنهم ويدفعهم إلى اليأس. لغة اليأس ممنوعة ولا نقبل بأن يكون شبابنا انهزاميين، لأن أملنا في لبنان كبير.
* نائب رئيس مجلس الوزراء السابق