وليد شرارة
بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على الغزو الأميركي للعراق، تحار غالبية المراقبين بما فيها أوساط ناقدة للسياسة الأميركية، في تحديد طبيعة مشروع واشنطن في هذا البلد. قسم كبير من هؤلاء رأى أن المآل الذي انتهت إليه الأوضاع في العراق لم يكن نتيجة مخطط أميركي مسبق بل «أخطاء» ارتكبتها ادارة بوش منذ احتلال جيشها له. هم يعتبرون أن التطورات التي تسارعت منذ الاحتلال خرجت عن سيطرة واشنطن وأن جزءاً كبيراً منها يتناقض ومصالح هذه الأخيرة. لقد كانت جادة، في رأيهم، في سعيها لإقامة نظام ديموقراطي ليبرالي وفيدرالي متحالف معها يكون بمثابة نموذج سياسي واقتصادي في هذه المنطقة. الأوساط الناقدة للسياسة الأميركية المتبنّية لهذا التحليل كانت تضيف عادة بأنه من غير المنطقي أن تعمد الولايات المتحدة الى تقسيم العراق إن كان في استطاعتها السيطرة عليه بالكامل، لكن الواقع المحلي «تمرد» على خططها وهي ساهمت، من حيث لا تدري، في إطلاق حيويات ما دون وطنية، طائفية وإثنية، يصعب التحكم بها، وخاصة عندما تقوم دول الجوار بالتحالف معها ودعمها. أبرز استنتاج للأوساط الناقدة المذكورة هو أن الديموقراطية لا تُفرض بالقوة. القسم الآخر من أنصار هذا التحليل يعتقد، على العكس، بأن المعركة التي تخوضها الولايات المتحدة في العراق مصيرية بالنسبة إلى مستقبل الاستقرار العالمي والديموقراطية وبأن مساندتها واجب أخلاقي وسياسي.
وجهة النظر الأخرى باتت معروفة وهي تنطلق من قناعة راسخة بوجود مشروع أميركي لتقويض الدولة العراقية وتحويلها الى فيدرالية طوائف وإثنيات في حالة حرب باردة مزمنة تحت الإشراف الأميركي في أحسن حال أو تقسيمها الى دويلات على أسس طائفية واثنية في أسوأ حال. باحثون وخبراء أميركيون كثر دعوا الى اعتماد هذا الخيار منذ الأيام الأولى للغزو لكن بعض المتفائلين أصروا على النظر الى دعواتهم على أنها مجرد اجتهادات خاصة لا تعبّر عن السياسة الرسمية للادارة الأميركية. لكن تصريحات وزير الداخلية البريطاني الأسبق، دايفيد بلانكيت، ستدفعهم على الأغلب الى الحد من تفاؤلهم وتعزز من صدقية نظرية «المؤامرة» التي يكرهون. هل هناك مفردة غير مفردة «المؤامرة» لوصف مخطط قوى خارجية لتقسيم وطن وتمزيق وحدة شعب من دون أخذ طموحاته وتطلعاته بعين الاعتبار؟ ألم يكن مؤتمر برلين الذي عقد في ثمانينيات القرن التاسع عشر لتقسيم أفريقيا الى مناطق نفوذ ومستعمرات بين القوى الأوروبية مؤامرة على الشعوب الأفريقية؟ ألم تكن اتفاقية سايكس بــــيكو مؤامرة على شعوب المشرق العربي؟ وماذا عن وعد بلفور بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني؟
يكشف الوزير البريطاني المذكور في تصريحاته أن الولايات المتحدة بعد غزو العراق كانت على وشك تفكيك هذا البلد وتقسيمه لكن تدخلاً بريطانياً مع نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد منع ذلك من دون أن يستطيع وقف تفكيك الهياكل الأمنية والعسكرية والادارية السابقة ولا سياسة «اجتثاث البعث». دمرت الولايات المتحدة مؤسسات الدولة العراقية وأعادت بناءها على أسس طائفية واثنية وأوصلت الى مركز القرار قوى من الطبيعة نفسها وباتت العرّاب والحكم الذي يشرف على تناحرها واقتتالها وخلقت عبر ذلك الشروط المؤاتية لتقسيم العراق وبدأ مشاركون في هذه المؤامرة بالإدلاء باعترافاتهم بخلفياتها وتفاصيلها لكن البعض عندنا ما زال مصراً على إنكار وجودها.