فؤاد خليل*
هكذا، فالعروبة الرابطة الجامعة تضمن وحدة المجتمع في كل كيان عربي وتشرط وجوده واستمراره، وتجسّد النحن المجتمعية في هوية مشتركة بين أنواتها المفردة أو الخاصة. وعلى هذا الأساس، يتبدى بجلاء أن المجتمعي يبقى حياً بالعروبة، وأن العروبة تبقى حيّة بالمجتمعي. وكل إخلال بهذه المعادلة أكان من الداخل أم من الخارج، أم من الاثنين معاً، يؤدي بنا إلى أن نختزل انتماءاتنا المركّبة بانتماء أولي وحيد له أن يحوّل هوياتنا الشخصية والجماعية إلى هويات قاتلة بامتياز. أو بمعنى آخر، يؤدي بنا إلى ان نبقى على هامش العصر، وفي ظنِّ بعض مثقفينا أننا سوف نفعل فيه، لمجرد أن نتخلى طوعاً عن سردياتنا الحقة..
إطار الفهم
أما ما نريد أن يكون عليه إطار الفهم هنا، فهو أن العروبة الرسمية هي صيغة سلطوية للعروبة قد تجاوزها التاريخ بعدما شهد على فشل تجربتها وعجزها المتمادي على غير صعيد وميدان. لكنه في المقابل، شهد بأن المجتمع في أي كيان عربي لا يحفظ وجوده كمجال موحد إلا برابطة أو هوية تتأسس على المشترك البنيوي بين مكوناته المفردة. وتلك الرابطة لن تكون سوى العروبة لأنها تمثل التجسيد الواقعي لهذا المشترك من جهة، وتتبدى بأشكال ومظاهر متفاوتة في عناصر المجتمع المتنوعة من جهة أخرى. إذ ذاك تغدو العروبة رابطة المؤتلف في المتعدد والمتعدد في المؤتلف. أو بمعنى آخر، تغدو في المؤتلف رابطة وطنية تؤطر التنوع في داخل الوطني، وفي المتعدد رابطة قومية تؤطر المؤتلف بين الوطني والآخر.
وعندما تكون العروبة كذلك، أي عندما تشكل حامل المؤتلف والمتعدد، أو الوحدة في التنوع، والتنوع في الوحدة، تكون طبيعتها والحال هذه، على انسجام وملاءمة مع الديموقراطية بوصفها نمط حياة يؤطر جدل العلاقة بين الوحدة والتنوع في نطاق منظومة فكرية ثقافية حداثية تنهض ابتداء على الفرد ــ المواطن وتخلص بالدولة بوصفها التعبير السياسي عن سيادة المجال العام وعن كونها أداة تنظيمه أو عقلنته.
وحين تتأسس العروبة أو تُبنى على المشترك، يكون لكل عنصر منه (جماعة) في ماضيه وفي حاضره، نصابه المخصوص في عملية البناء. وبالطبع تكون أحجام الأنصبة ومقاديرها متفاوتة ومختلفة من حيث الكم والكيف. لكن التفاوت هنا، لا يمكّن أي عنصر من أن يختزل المشترك بثقافته أو بدينه أو بفلسفته أو بأيديولوجيته، لكون المشترك نتاج عملية متكاملة لكل العناصر مجتمعة، وليس نتاج جهود فردية أو متفرقة لكل عنصر منها على حدة...
وتبعاً لذلك، لا يعود بوسع دين أي عنصر أن يطغى على العروبة، أو أن يسمها بثقافته دون سواه، بل تغدو أديان جميع العناصر (الجماعات) مكونات ثقافية لها وإن اختلفت درجة تأثير مكوّن عن آخر. ما يعني أن العروبة كرابطة جامعة، تتحرر من الدين أي من دين بعينه، لكونها تأتلف أديان المشترك كلها، وتجمع بينها.
وحينما تتحرر العروبة من دين ما، تعيد إليها الدين بوصفه مكوّناً ثقافياً لا بوصفه الثقافة...
وفي المساق نفسه، يأخذ العنصر العربي (الجماعة العربية) موقعه أو مكانته إزاء العناصر الأخرى من خلال فعله البنائي في عملية بناء المشترك لا من خلال ميزات أو خصائص ثابتة تعود إلى جنسه أو لونه أو عرقه. وتأخذ العناصر (الجماعات) مكانتها أو موقعها إزاءه وإزاء بعضها البعض في ضوء أفعالها البنائية في مجرى العملية نفسها، لا في ضوء ميزات أو خصائص ثابتة ترجع إلى قومية أو اثنية أو عرق كل عنصر منها.
وبذلك، تتخالف طبيعة العروبة مع كل فلسفة تسمها بالعرقية أو بالهيمنة القومية، لأن المشترك الذي تتأسس عليه قد صنعه الجميع وهو لا يستمر إلا بصناعة الجميع، ما يؤكد أن العروبة لا تقوم على أي عرق أو تصطبغ به أياً تكن أرومته أو أصوله في التاريخ، ولا تنحصر بأي قومية للأمة دون سواها، أياً يكن حجم الأخيرة أو موقعها أو مكانتها بين القوميات والإثنيات الأخرى...
هكذا هي العروبة، سردية كبرى تتوافق طبيعتها التي تؤلف بين الوحدة والتنوع، مع الديموقراطية، وتتلاءم مع العلمانية، لأنها تملك أن تتحرر من أي دين بعينه، وتنطبع بالإنسانية، لأنها لا تقوم على أي عرق أو جنس أو لون دون سواه..
إنها والحال هذه، عروبة حضارية تتوفر على شروط بنائها المتواصل، وتتفاعل مع حقائق العصر ومتغيراته...
(حلقة ثانية وأخيرة)
* أستاذ جامعي