تمام مروة
لم تكن حادثة الرمل العالي الأولى من نوعها، وليست المرة الأولى التي يطلق فيها الرصاص خلال التظاهرات، ويسقط مدنيون يحتجون على غبن وظلم لحقا بهم. فقد شهدت سبعينيات القرن الماضي أحداثاً مشابهة، كان آخرها في 26 شباط 1975، عندما فتحت القوى الأمنية وعناصر من الجيش اللبناني النيران على تظاهرة للصيادين في صيدا، احتجاجاً على تلزيم، حكومة صائب سلام آنذاك، الصيد البحري لشركة بروتين، وقد سقط في هذه التظاهرة عشرة مواطنين إضافة إلى النائب معروف سعد. لم تتحرك الحكومة في حينها، رغم التحركات الشعبية التي عمّت صيدا وجميع المناطق اللبنانية، إلا أن الحادثة ساهمت في إطلاق شرارة حرب أهلية استمرت لأكثر من 15 عاماً.
في تشرين الثاني 1972، سقط العاملان، يوسف العطار من قرية شعث البقاعية وفاطمة خواجة من عيترون الجنوبية، برصاص القوى الأمنية، خلال اعتصام لعمال معمل غندور، للمطالبة بزيادة الأجور ومنع الحسومات التعسفية. شملت ردود الفعل الشعبية والنقابية عدداً من المناطق، وعقدت جلسة خاصة لمجلس النواب، هوجمت خلالها الحكومة لأدائها، ولكنها لم تسقط ولم تستقل. وتكررت الحادثة في كانون الثاني 1973، وسقط مزارعا تبغ، نعيم درويش من حبوش وحسن حايك من كفرتبنيت، خلال تظاهرة أمام شركة الريجي في النبطية، احتجاجاً على سياسات الشركة الاحتكارية. يومها طالب رشيد كرامي الحكومة بالاستقالة، ووصفها كمال جنبلاط بـ «عهد المماليك»، وأسف رئيسها صائب سلام، ولكنه دافع عن رجال الدرك والجيش بحجة قيامهم بالواجب، واجب حماية الشركات الخاصة من التعديات غير المسؤولة! وكان من الطبيعي أن يدافع رئيس مجلس النواب كامل الأسعد عن سياسة الحكومة علناً، ليحمي مصالحه ضمناً. ولم تسلم تظاهرات الطلاب وخصوصاً الفقراء منهم من رصاص القوى الأمنية اللبنانية، فسقط السائق علي نجيب الدين، في شباط 1974، في مدينة النبطية أثناء تظاهرة طلابية استنكاراً لسياسة العنف التي تتبعها الحكومة في قمع تحركاتهم. لم يصدر أي موقف رسمي، استنكاراً أو تأسفاً. كانت ردود الفعل الرسمية شبه معدومة وغير فعالة، إلا أن الشارع والتحركات الشعبية لم تكن لتسكت أو تهادن، بسبب نشاط النقابات والأحزاب وقتها، ولم يكن أهالي الضحايا يطمحون إلى أكثر من تضامن شعبي من أمثالهم في الشارع. مع انتهاء الحرب الأهلية، وعودة الشرعية وسلاحها، وإضعاف كل أشكال الاعتراض الشعبي، من نقابي وحزبي، عاد الرصاص ليكون وسيلة قمعية، تستعمل لأهداف سياسية. فقتل رصاص الجيش اللبناني، وفي رسالة واضحة إلى حزب الله، 13من مناصريه، في 13 أيلول 1993، خلال تظاهرة تنديد بتوقيع اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكانت الحادثة الوحيدة التي علق فيها وزير الداخلية بشارة مرهج أعماله آنذاك، مع أن مطلق النار كان الجيش اللبناني من دون مساندة القوى الأمنية الأخرى. في أيار 2004، شمل الإضراب العام والتظاهرات «الحضارية» جميع المناطق، إلا أن إطلاق النار لم يحدث إلا في أكثر المناطق تهميشاً في بيروت، في حي السلم، وسقط خمسة أشخاص من المدنيين، منهم من كان مـاراً في الشارع، ومنهم من كان مشاركاً في «أعمال الشغب» . بانتظار نتائج التحقيق في جرائم حي السلم والرمل العالي، وخطة تنمية متوازنة مناطقياً، وعودة التحركات الشعبية والجماهيرية وحرية التظاهر لقضايا اجتماعية من دون التعرض للرصاص أو التخوين، يحق لنا طرح أسئلة منها: لماذا التسرع في إطلاق النار؟ . إلى مؤسسات المجتمع المدني يحق لنا التساؤل: لماذا التزام الحياد والصمت إزاء ما يحصل؟ أليس من حق المتظاهرين في الرمل العالي الحصول على السكن اللائق والغذاء الجيد؟ أليسوا في خلاف مع القانون، وخصوصاً أن القتلى هم من الأحداث؟
تفرض المواطنة، «شعار جميع المؤسسات المدنية والعسكرية»، على المواطنين الانتماء للوطن والمشاركة في بنائه وتنميته والحفاظ على الممتلكات العامة، والعيش المشترك. بالمقابل على الوطن أن يحتضنهم ويذوب خلافاتهم واختلافاتهم، إلا أن الحاصل في لبنان وعلى مر التاريخ، أن السلطة فيه تعمل بقول الكاتب الإنكليزي جورج أورويل: «كل الحيوانات متساوية ولكن هناك حيوانات أكثر تساوياً من حيوانات أخرى». فعدا الحرمان والتهميش اللذين لا يقلان عنفاً عن إطلاق الرصاص، تمارس هذه السلطة استنسابية في تطبيق القانون، وفي احترام حرية التعبير والتظاهر وفي التعاطي معهما، فهي تستهلك كل ما يلزم لتفريق المتظاهرين في بعض المناطق، وتطلب تشكيل لجان حوار معهم، ولكنها «تستفز بسرعة فائقة» وتطلق النار مباشرة في المناطق الهامشية. وهي تظهر صورة لبنان الديموقراطي، واحة الحرية في الشرق الأوسط، برعايتها تظاهرات الملايين في وسط بيروت، وتسمح باستعمال أرواح «المواطنين» في حي السلم والرمل العالي لتمرير رسائل سياسية. فكيف لهؤلاء «المهمشين لا المواطنين» أن يشعروا بانتمائهم لهذا الوطن وأن يشاركوا فيه ويحافظوا على ممتلكاته العامة.