عمر كوش *
شغلت منطقة الشرق الأوسط التفكير السياسي الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا، وأخذت مسألة تغييره تسيطر شيئاً فشيئاً على تفكير مختلف الإدارات الأميركية التي تعاقبت على البيت الأبيض في واشنطن، وتستحوذ على تفكير النخب السياسية الأميركية كذلك، وتعبّر عنها علناً مشاريع وخطط مراكز الأبحاث والدراسات الأميركية المؤثرة في مراكز صنع القرار الأميركي.
وتغيير خريطة الشرق الأوسط في التصور الأميركي، كان ولا يزال يهدف إلى تحويل منطقتنا إلى مجرد تجمّعات صغيرة من قوميات وأعراق وأديان وطوائف متصارعة، لأن وجودها اليوم وفق هذا التصور ضمن دول، ليس إلا نتيجة اضطرارها إلى العيش القسري، أي التعايش بالقوة لا بالمشترك الثقافي التاريخي والتوافق في المصير.
وقد نشر أخيراً موقع «مجلة القوة العسكرية» الأميركي خريطة جديدة للشرق الأوسط الجديد وفقاً للرؤية الأميركية، مرفقاً بمقال للجنرال الأميركي المتقاعد «رالف بيتر» تحت عنوان «حدود الدم». يشرح فيه التقسيمة الجديدة للمنطقة، حيث ستُستقطع أراضٍ من دول عربية معينة، وإضافتها إلى دول أخرى وإقامة دول جديدة.
وتُظهر الخريطة الجديدة ثلاث مجموعات من الدول:
1 ــ دول مستهدفة بالتقسيم والاقتطاع، وهي: سوريا، العراق، السعودية، الإمارات، تركيا، وإيران.
2 ــ دول سوف تُوسّع لأسباب سياسية، وهي: اليمن الذي ستُضم إليه أجزاء من السعودية. والأردن الكبير الذي سيضم إلى أراضي الأردن الراهنة أجزاءً من السعودية والضفة الغربية، وربما أجزاء من جنوب سوريا، وسكانه سيكونون من الأردنيين والفلسطينيين وفلسطينيي الشتات. وأفغانستان تحصل على أراضٍ من باكستان وتفقد جزءاً من أراضيها لمصلحة بلاد فارس.
3 ــ دول مستحدثة، وهي دولة كردستان الكبرى التي ستشمل كردستان العراق وكركوك وأجزاء من تركيا وإيران وسوريا، ودولة شيعستان، وتشمل جنوب العراق والجزء الشرقي من السعودية والأهواز، ودولة سنّستان التي ستقام على ما تبقى من العراق وربما تُدمج مع سوريا، دولة بلوشستان الجديدة، وتقوم على أجزاء من باكستان وإيران، والدولة الفارسية التي ستقوم على أنقاض إيران الراهنة وأجزاء شيعية من أفغانستان، والدولة الإسلامية المقدسة التي ستُقام على غرار دولة الفاتيكان، وتضم منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، ودولة السعودية التي ستفقد أجزاء كبيرة لمصلحة اليمن والأردن.
وتُظهر هذه الخريطة أن المسعى الأميركي من مشاريع التغيير هو إيجاد دويلات ونظم وإفرازها بحيث تضمن الولاء المطلق للسياسة الأميركية، وتنهض على توازنات طائفية، لذلك يجب تدمير أي نموذج مقاوم أو مخالف عبر شنّ الحروب التدميرية. وفي هذا السياق جاءت الحرب على لبنان في 12 تموز 2006 كي تؤكد اقتران مشاريع التغيير في منطقتنا العربية مع حروب تدميرية تفتك بالبشر وتعيد البلاد عقوداً عديدة إلى الوراء، ليحل الخراب، ويطال الدمار كل شيء. وقد سبق أن أعلنت الإدارة الأميركية مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الموسّع، الخالي من الاستبداد والفساد والحامل للديموقراطية، مع الحرب الأميركية ــ البريطانية على العراق. لكن مع الحرب الأخيرة، آثرت الإدارة الأميركية تبديل صفة «الكبير أو الموسع» في الصيغة السابقة للمشروع الأميركي إلى صفة «الجديد» في الصيغة الجديدة، كي تدرك شعوبنا مدى الاختلاف ما بين الصيغتين اللتين لا تختلفان إلا في الشكل ولهما مضمون واحد هو الخراب والدمار. ويبدو أن الساسة الأميركيين لا يعرفون غير الدمار علاجاً وحيداً لمشاكل منطقتنا العربية، عوضاً من دعم التنمية والتحوّل الديموقراطي فيها، ولم يجدوا حلاً غير «الفوضى الخلاقة»، أو بالأحرى المدمرة، كما سبق أن تدخلت الولايات المتحدة الأميركية عسكرياً وسياسياً منذ سنوات في الصومال، ولم تخلّف وراءها سوى بلد مدمر وفرقاء حرب وتربة صالحة لتكاثر مختلف الأصوليات، وشنت حربها على العراق وحوّلته إلى بلد مدمر ومرتع لميليشيات إرهابية، وفرق موت، وحرب أهلية مذهبية، يُقتل فيها الإنسان على الهوية، ثم أعلنت ولادة شرق أوسط جديد على حساب تدمير لبنان وقتل روح المقاومة فيه.
وتجاوزت الولايات المتحدة الأميركية، في حرب 12 تموز، الحرج الناتج من تعاونها المباشر والعلني مع إسرائيل في حروب التدمير على البلدان العربية. إذ في حربها على العراق طلبت إدارة بوش الأب من إسرائيل السكوت والصمت حين ضُربت مدنها بصواريخ «سكاد»، وأن تترك الأمر للتحالف الأميركي، فيما إدارة بوش الابن طلبت منها أن تشن هي الحرب على المقاومة اللبنانية، بعدما تعثّرت مشاريعها في المنطقة. ولم تتوانَ الإدارة الأميركية عن تغطية الحرب على لبنان دولياً وتوفير الدعم الإقليمي، بل عملت على منع صدور أي قرار يطلب الوقف الفوري لإطلاق النار، وذهبت إلى أبعد من ذلك حين وضعت عنواناً للحرب هو تنفيذ القرار 1559.
ويتبيّن من الحروب الأميركية أن مخاض مشاريع تغيير الشرق الأوسط مضرّج بالدماء العربية، تتداعى فيه الدول، وتدمر المدن والبلدات والقرى، العراقية واللبنانية والفلسطينية، وتتناثر على أرصفة شوارعها أشلاء الضحايا وصراخ الأمهات وصيحات الأطفال. غير أن الإدارة الأميركية الراهنة لم تتعلم الدرس، ولم تستوعب حقيقة ما حصل ولا يزال يحصل في العراق، فحاولت أن تحقق في لبنان ما عجزت عن تحقيقه في العراق. ولم تعِ هذه الإدارة أن المقاومة تحولت إلى فكرة، قوامها أنه ما بقي الاحتلال والعدوان فستستمر المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان ومختلف البلدان العربية الأخرى، لأن شعوب المنطقة لا ترى سبيلاً غير المقاومة لمواجهة المخططات الأميركية التي لا تأخذ في الحسبان غير مصالحها والمصالح الإسرائيلية.
* كاتب سوري