قاسم عز الدين *
لم يخترع مفكرو معاهدة وستفاليا فلسفة خاصة بسيادة الدولة واحتكارها قرار السلم والحرب، إنما اقتبسوا اختراع توماس هوبس وأخذوا بفلسفته في الدولة وهي كلٌ متكامل منسجم في مقدماته وخلاصاته وليست دكان عطّار ينتقي منه المرء «تشكيلة» تلائم ذوقه النفعي و«خصوصياته المحلية»، فالموضوع هو دولة أو مزرعة ولا شيء بين الاثنين. في مقدمات هوبس أن الجماعات البشرية عدوانية بالغريزة تعيش في غاب الأرض حرب البقاء والتطور ما يقتضي إنشاء دولة تنقل فوضى الحرب من الغاب وتنظمها في «المدينة». لا تلغي الحرب إنما تحمي من الخوف بالخوف وتوفر مساحة آمنة بمقدار نجاحها في الحرب وإعداد الحرب والردع وقت السلم. تفترض مقدمات هوبس ان الدولة المساحة الآمنة لا تعيش بتنظيم أمورها الداخلية والاتفاق بين أهل «المدينة» على قرار السلم أو الحرب، إنما تعيش بتنظيم الحرب بين الدول وهي بدورها حرب منظمة بين الدول وشرعة غاب بين الدول والمزارع. تعيش الدول بالتوسع (الجغرافي والنفوذ والسلطان والاقتصاد والسياسة والثقافة) والعدوان، وخاصة على المزارع وتعيش حالة دائمة من الاستعداد للحرب خوف التوسع على حسابها وهو أمر يفضي الى السلم الأهلي (السلم الاجتماعي)، بينما تعيش المزارع شرعة الغاب بين الدول، الأمر الذي يفضي الى فوضى الحرب بين «المكونات الداخلية» وبينها وبين المزرعة. لكن هذا البنيان البرّي للدولة والمزرعة، حيث القوة عارية، يترافق مع مستويات متعددة من التذويق الأخلاقي والمثالي الضروري للطمأنينة: المعاهدات والمواثيق والاتفاقات وأيضاً ثقافة السلام ومناهضة الحروب، ثم حديثاً شرعة الأمم المتحدة «والمجتمع الدولي»، إنما هي تذويق في القيمة المضافة الرمزية للدولة لا يغيّر في أساس البنيان.
والحال، نشأت «الدولة الوستفالية» نتيجة فوضى الحرب وحلاً لأزمتها التي أنهكت الاقطاعيات الاوروبية في حرب الثلاثين سنة. وفّرت أزمة الاقتتال لرجال الدولة فرصة تاريخية، وكان هناك رجال دولة يحملون مشروعاً ويتسلّحون بالمعرفة. لم تملأ الدولة الناشئة الدنيا ضجيجاً فارغاً «أنا الدولة، أنا الشرعية والسيادة»، ولم تقم بنزع السلاح المانع من احتكارها قرار السلم والحرب إنما عطّلته بإزالة فعاليته وإلغائها، فكان نزع السلاح، نتيجة التعطيل ونتيجة إلغاء فعاليته، بسلاح المشروع الأعلى للحرب ولم يكن مقدمةً له. قفزت «الدولة الوستفالية» فوق الاقطاعيات ببناء شرعيتها وسيادتها. عطلت فوضى الحرب بمشروع تنظيم الحرب بين الدول وبنت لهذه الغاية مؤسسات الدولة ابتداء بمؤسسة الجيش الوطني التي تكفل توسع السيادة الخارجية بين الدول وتكفل رد العدوان على السيادة الخارجية وردعه، لكنها بنت مؤسسات الدولة الاخرى على هذا المنوال في تنظيم الحرب بين الدول، ولعل أصحاب السيادة في لبنان لم يلحظوا ان احتكار «الدولة الوستفالية» قرار السلم والحرب بدأ باحتكارها الضريبة وقد أفضى الى تحرير الفلاحين من سلطة الاقطاعيات واستيعابهم في الجيش الوطني، ثم توالى بأولويات تصاعدية نحو تنظيم الملكية العقارية والمسألة الزراعية فكان بناء مؤسسات الدولة وظيفة في مشروع وليس هدفاً قائماً بذاته، كان سبيلها إلى «التحديث» الاجتماعي وتشكيل انقسامات اجتماعية «حديثة» توفر لها السيادة الداخلية، انما لتعطيل فوضى الحرب ونقلها الى تنظيم الحرب بين الدول. فبناء مؤسسات الدولة ليس فعلاً «حضارياً» سلمياً وليس لعبة كلمات متقاطعة بل هو عملية «عدوانية» في مشروع بناء «دولة قوية وعادلة» ندية في تنظيم الحرب بين الدول.
في التمرين العملي ينبغي الاعتراف بأن سلاح المقاومة يطرح إشكالاً معرفياً على أصحاب السيادة في لبنان، إنه يتجاوز عملياً سقف الوعي السياسي السائد لدى الطبقة السياسية ونخبها الثقافية. فلا تتعجب اذا سمعت وزيراً أو زعيماً ينأى بنفسه عن «الأمور السياسية»، ولا تعجب لمفكر «يكره التنظير»، فالدولة في وعي هذه الفئات وفي لاوعيها هي إدارة محلية تظلل الطوائف والمذاهب والأفخاذ «طالما هي طبيعة مجتمعنا»، و«لنا» هنا غالباً ما تعود إلى «هم»، وعوض من ان تقوم الطبقة السياسية بوظيفتها الطبيعية لنقل فوضى الحرب الى مساحة آمنة تنظم الحرب بين الدول فإنها تشد بكل قوتها هبوطاً لإعادة فوضى الحرب الى الغاب وتشدّ بالمقاومة التي بُنيت أساساً في عملية تنظيم الحرب بين الدول، الى النزول معها. يطرح سلاح المقاومة على وعي الطبقة السياسية ونخبها الثقافية إشكالاً معرفياً أهم هو إشكال «ثقافة السلام» إذ لا يتسنّى لها إدراك المسائل المركبة غير الحسّية وكيف يتسنّى لها ذلك بموازين «التقريش» وصرف القضايا بالعملة النقدية؟ تنظر في الحرب دماراً وهولاً حسّياً بما نذوق ونعلم. تنظر في الوجه الحسي البشع ليافع مدلّل ولا تنظر في الأوجه الأخرى التي تكثّفها السياسة في الحرب يفضي بها «وعيها السياسي» الى شدّ أزر الدول التي تنظم الحرب في ما بينها وتنظم فوضى الحرب في غاب الارض. فاستراتيجيا السلام هي استراتيجيا منقولة إلينا خصيصاً في «الملكيات العقارية» لا تتبنّاها أي دولة من الدول التي تنظم الحرب كما لا تتبنّى سياسة التطبيع وسياسة المفاوضات سبيلاً وحيداً (إن سويسرا الأكثر شهرة بالسلام بين الدول هي دولة حيادية وليست دولة سلامية) وقد أفضت استراتيجيا السلام في بلادنا الى جذب التوسع والعدوان الاسرائيلي وأفضت كذلك الى أشكال شتى من فوضى الحرب في كل هذه البلاد، ومن ينتظر ان تشبع اسرائيل وان «تعرف اميركا مصالحها» في بلادنا، فعليه ان ينتظر طويلاً.
ينبغي الاعتراف ايضاً ان سلاح المقاومة ظاهرة غير مألوفة في تاريخ المقاومات. فالمقاومات الاخرى اعتمدت الثورة وصولاً الى السلطة وأعادت بناء الدولة من «الثورة»، انما لم تسلك المقاومة في لبنان طريق الثورة ولم تطرح الوصول الى السلطة بل بسطت يديها أمام «الجميع» داعيةً للتكامل وتوحيد الجهود في اعادة بناء دولة من المستوى الذي وصلت إليه المقاومة.
لم تستطع المقاومة ان تسد كل الفراغات التي أخلتها الطبقة السياسية ونخبها الثقافية بتخلّيها عن تحمل مسؤولياتها. عجزت المقاومة عن تحويل وعي الطبقة السياسية، الى وعي رجال دولة بضرب المثل، وكان من الطبيعي ان ننتظر «ثورة مضادة» عنيفة ضد مقاربة المقاومة في إعادة بناء الدولة. فالانقسام الحاد في الخطاب السياسي المتدنّي يعبّر عن أزمة، لكن الأزمة نفسها هي في عمقها انقسام ضبابي بين مقاربتين لإعادة بناء الدولة لا يرى الناس فيهما ضوءاً آخر النفق. المقاربة الاولى هي مقاربة الطبقة السياسية ونخبها الثقافية في دولة الحائط الواطي تأمل الإمساك بقرار السلم والسلم شأننا شأن جيراننا وأقاربنا الذين فاضت عليهم النعم والخيرات والسلم والأمن لدرجة يضرب بها المثل. والمقاربة الثانية هي مقاربة المقاومة في مسار بناء دولة قوية عادلة يفضي الى احتكارها قرار السلم والحرب شأن الدول التي نقلت فوضى الحرب الى مساحة آمنة لكن هذا المسار ليس مسار حزب الله وحده إنما هو دينامية تاريخية جديدة وفّرتها المقاومة، بانتصارها للغالبية الساحقة من اللبنانيين المتضررين من فوضى الحرب في الغاب.
* كاتب لبناني