غسان طه *
رافق وضع المأزق الحاد في لبنان، انقساماً رؤيوياً استند إلى بعدين أساسيين بين فريقي النزاع، 14 شباط و 8 آذار، بحيث مال أحدهما للدفاع ومطالبة الفريق الآخر بضرورة الاعتراف والإقرار بمظلة دستور الطائف والركون إلى نصوصه الدستورية باعتبارها انبثقت من إرادة وطنية تشكل الأساس في العبور نحو الدولة بكل ما تعنيه هذه الدولة من الاحتكام إلى المؤسسات الدستورية والتسليم بسيادتها على نفسها وأرضها، وعلى أنها الحاضنة لأفرادها.
أما الفريق الآخر، فقد أعلن نفسه معارضاً للسلطة لا لدولة الطائف، مرتكزاً في طرحه على ثنائية تعد وفق رؤيته منطلقاً لتأسيس دولة حقيقية تقوم على مبدأي القوة والعدالة، من دون الدخول في تفاصيل المندرجات والآليات. لعل الأمر يكون تعبيراً عن إرادات جميع اللبنانيين، بحيث إن ذلك يشكل منطلقاً لنقاش كبير يبدأ من بلورة ما تختزنه الأبعاد المفهومية لمعنى القوة والعدالة، ثم الانطلاق نحو التساؤل: هل التقيد التام بمندرجات الطائف يعبر عن هذه الدولة؟ أم ثمة مبادئ دستورية إضافية يمكن بموجبها إصلاح بعض الاختلالات النصية من دون الخروج عن الدستور، أم أن الأمر مجرد حالة ميثاقية تتجلى بتوافق الإرادات على السير بها بمعزل عن المساس بنصوص الدستور؟
ولو سلمنا أن الأمر يجب الركون إليه خلال الأبعاد الميثاقية التي ستنشأ بعد حوار جدي ومستفيض من دون المساس ببنود الدستور، بل تبقى مندرجاته حاكمة على الحوار، ولا سيما أن الكثير من هذه المندرجات يختزن ــ برأي البعض ــ في مضامينه معنى الدولة القوية والعادلة، كإحدى مواده التي تعطي الشرعية القانونية للسلطة الحاكمة وتحكم آلية عملها المؤسساتي، والتي تنص على أنه لا سلطة تقوم خارج العيش المشترك، وهو ما يعكس عدالة الدولة في توزيع السلطة بين الطوائف بمعزل عن الاأحجام، ويحكم عملها الخارج عن نطاق الطائفية في الممارسة، وهذا يعطيها طابعاً عمومياً، وهو بحد ذاته يشكل القوة التي تضمن استمرارية الدولة وتوجه آلية عملها. قد يصبح ذلك من الناحية النظرية التي تأخذ بتلابيب الأمور بما هو طاف على سطحها، غير أن الولوج إلى عمق الأمور يجعل من هذا المبدأ الدستوري مادة للنقاش المستفيض، على أن يستوجب التسليم أولاً بأن العيش المشترك هو مطلب يجد له عمقه الإنساني لدى جماعة تعيش حياة مشتركة على أرض واحدة، تعيشه بالمعنى الاجتماعي ثم السياسي، وعلى الأقل يجري التمسك به حتى لمن يخالفه عبر مبررات قد تكون ذاتية أو أيديولوجية كي لا يتهم في أخلاقيته الإنسانية أو الاجتماعية والسياسية منها.
فليس ثمة دولة في العالم ترفض هذا الأمر، ولعل الدول الحديثة لا تذكره في دساتيرها بنصوص دستورية، ولكنها تمارسه عبر وسائلها وآليات ممارساتها السياسية. ولذلك فإن السوسيولوجيا الحديثة تفصح عن هذه الممارسة بما لا يحوجها إلى نصوص تأكيدية. فالعيش المشترك واقع لا مجال. وأما من الناحية الفلسفية فالتعايش ناشئ من عقد اجتماعي قائم على ثنائية الشعب والسلطة، ولكنها ثنائية بين طرفين أولهما الشعب ثم الحكام الذين يمارسون السلطة باسم الدولة. فيما واقع الحال أن العقد الاجتماعي في لبنان هو أقرب ما يكون إلى عقد الطوائف مع سلطة الدولة، على أن تحفظ هذه الدولة عبر مؤسساتها مواقع النفوذ لكل طائفة من الطوائف، أي بما يشبه الدولة التي تقوم على فيدرالية الطوائف. هذا العقد معرض للاهتزاز حين إحساس طائفة ما بالغبن وتعمّد الإقصاء من قبل الآخرين من الطوائف الأخرى فتثور حينذاك مقولة العيش المشترك ويجري الركون إليها كمسلّمة لا يمكن الحياد عنها، وهو ما يجعل الدولة عرضة للتصدع والانقسام، ولا تستقيم الأمور إلا بعودة الحق إلى نصابه.
على هذا النحو، فالدستور براهنيته هذه، يجعل الحياة السياسية للطوائف مفتوحة على الأزمات الآنية والدورية. ففي حين تبرز الأولى في آلية اشتغال السلطة تجاه صوابية إدارة العمل اليومي ومدى مراعاته لمبدأ العيش المشترك، تبرز الأخرى مع الاستحقاقات الدورية من انتخابات نيابية وتشكيل مجالس الدولة ومؤسساتها، وفي كلتا الحالتين، ثمة دورة أزمة مستجدة في كل حين، وهي حين بروزها حتى انتهائها تسلك مساراً ثلاثي الأبعاد، بحيث ينجلي الأول مع حدوث خلل يقع على إحدى الطوائف ثم تتعمق الأزمة بنقاشات واعتراضات ترخي بظلالها على مجمل التركيبة السياسية لتبلغ مرحلة الذروة، لتخرج أخيراً من عنق الزجاجة إلى مرحلتها الأخيرة، وهي التسوية. فطرق التسويات التي لا تمثل عادة أرجحية لطائفة على أخرى ــ هي إحدى مبتدعات العبقرية اللبنانية في عبور الأزمات ــ ليست مقطوعة الصلة عن جذور الدستور، إذ لها ما يبررها في مسوغات العيش المشترك، وفي التوافق الذي هو أيضاً لم يغفل الدستور إبرازه في مواده ليتواءم مع فكرة ومبدأ العيش المشترك.
حين يحتدم النقاش ويتعمق الانقسام لا بد لمسار الأزمة من الانحراف عن مسارها إلى وسيلة لحسم النزاع، وهي الاستناد إلى رأي الأكثرية وهي آلية مدرجة في الدستور تلجأ إليها الأكثرية ثم تُبَرَّر محملة بأوصاف مضافة على أن لبنان بلد ديموقراطي على غرار الدول العريقة في ممارسة الديموقراطية التي تصنع الأكثرية فيه قرارها وتتولى تنفيذه، فيما تحفظ للمعارضة حقها بإبداء الرأي. وهي مقولة قد تجد لها سنداً منطقياً يسوّغ مقبوليتها من الناحية النظرية على الأقل، غير أنها تبقى مشوبة بالتشويه لكونها تشكل إحدى آليات الانتصار وتأكيد الذات في حقل المغالبة الطائفية بحيث تتقدم على مقولة العيش المشترك والتغني بعراقتها وفرادتها في لبنان دون غيره من سائر البلدان.
فهذه الآلية الدستورية إلى جانب تناقضها مع مبدأ العيش المشترك تطرح على الاجتماع السياسي اللبناني تساؤلات مستقبلية خطيرة. إذ ماذا لو توافقت طائفتان من الطوائف الكبرى بوجه إحدى الطوائف الكبرى التي تشكل أحد الأعمدة الأساسية في نظامي فيدرالية الطوائف؟ فحينذاك تكون الأكثرية الممكنة قد وفّرت الإمكان لبروز دورة جديدة من الأزمات قد تخمد بعد أن تطول بالعودة إلى فكرة ومبدأ العيش المشترك، وقد تؤسس ــ إذا لم تسلك سبيلها الى الحل التسووي ــ دورة جديدة من الحروب الأهلية تعيد إنتاج النظام القديم في توليفة جديدة محملة بإصلاحات فولكلورية لا تخرج عن روحية وجوهر ما هو قائم من ذي قبل.
على هذا النحو، فكما دستور الطائف يمثل المظلة للخروج من الحرب بتكريسه لحالة السلم الأهلي بعيد حرب أهلية طاحنة بين مكونات الشعب اللبناني، غير أنه يحمل بذور ضعف كثيرة بينها هذه المقاربة الجزئية لأحد مندرجاته التعايشية، وهو ما يعني أن هذه الصيغة المستولدة والمتجلية بروح النص ومندرجاته ليست سوى صيغة تطويرية لما سبقه عبر دستور 1926 والميثاق الوطني عام 1943، اللذين شكلا حين التوصل إليهما في مرحلتين منفصلتين، بادرة أمل لطالما تغنّى الكثير من اللبنانيين بهما حينذاك ثم ليجدوا أن كلاً منهما قد أسس حين الاشتباك مع واقع الأمور إلى إنتاج أزمات جديدة.
على هذا الأساس، إن شعار ومطلب تحقيق الدولة القوية العادلة هو شعار استراتيجي من شأنه إخراج الاجتماع السياسي اللبناني والأهلي من دورة الأزمات المفتوحة، ويوفر الإمكان للعبور نحو الدولة وهو مشروع وطني كبير يحتاج إلى إرادات حقيقية ورجالات تاريخية هي بحجم الشعار ويحتاج إلى إرادات جموع اللبنانيين، لأن الدولة الحقيقية والوطن الحقيقي لا يصنعه إلا أبناؤه.
* كاتب لبناني