عبد الإله بلقزيز *
لم تكن السياسة يوماً فعلاً إنسانيّاً مسنوداً بأخلاقية تبرّره «أو تسبغ عليه شرعية قيَمية. كانت دائماً مشدودة إلى المبدأ الوحيد الذي يسوّغها: تحقيق المصلحة أو المنفعة. ولا يصحّ ذلك على نوع معين من السياسة من الطراز الذي نظّر له «ميكيافيلي» في كتابه «الأمير» (أي البراغماتية) فقط، بل يشمل كل انواع السياسة بما فيها تلك التي تقدّم نفسها للناس في صورة رسالة: اجتماعية أو ثقافية أو حضارية. ذلك أن الطابع الخلاصي لهذه السياسة الرسالية يخفي ــ من دون أن يُعدم ــ الجوهر المصلحي الذي تقوم عليه والذي يتوسل القيم سعياً إلى كسب الأنصار وبلوغ الاهداف والمصالح.
وقد يكون في وسعنا أن نلاحظ أن مستوى البراغماتية في السياسة المعاصرة، أو قل في السياسة في العالم المعاصر، زاد على الحد الطبيعي الذي عرف به في سائر احقاب التاريخ. اما تفسير ذلك، ففي أن السمة الرئيس التي طبعت هذا العالم (المعاصر) هي الميل المتزايد نحو تكريس قيَم المنفعة واحتسابها الأولى في الاعتبار. وفي أن الصراع على المصالح احتدم أكثر، وبات يفرض على أي فعل سياسي أن يكون وازعاً رئيساً وأحياناً أوحد له. إن الحروب الكونية الكبرى تقدم مثالاً صارخاً للسياسة المركبة على مبدأ المنفعة، شبيهاً بالمثال الذي قدّمته حروب المستعمرين على المستعمرات وشعوبها، والتي نسيت فيها الدول الاستعمارية كل تراث الثورة البرجوازية ومبادئ الحرية والمساواة امام جشع الرأسمال وإغراء المصلحة!.
ومع ذلك، فالفارق كبير بين أن تنصرف السياسة إلى البحث في المصلحة بالوسائل البراغماتية التي ألفناها ــ في أشد أشكالها رياءً ــ في هذا العصر، وبين أن تصبح الوحشية المنفلتة من أي عقال أسلوباً رئيساً في ممارسة السياسة، أو أن يصل معدل البراغماتية إلى نفاق مفضوح هو أشبه ما يكون بالضحك على الذقون! نعم، السياسة كذب أو شيء في هذه المثابة، او قل ــ حتى ــ إنها صدق لا يتحرج من استدعاء الكذب عند الاقتضاء. لكن للكذب أصولاً! أليس هو رواية تتحرّى الدقة في الحبكة وفي نسج الوقائع على النحو الذي يتوخّى التماسك المنطقي، ويتحاشى الوقوع في تناقض يفضح الرواية برمّتها ويرفع عنها الصدقية؟ ليست هذه حال بعض السياسة اليوم: إنها تمتهن الكذب وتمارسه بدون اكتراث لمدى النجاح في أدائه على الوجه الامثل. بل هي تلجأ ــ أحياناً ــ الى ممارسته على النحو الذي يُفهم الممارس عليه بأنه كذب صُراح!
هذه مدرسة جديدة في البراغماتية ومحطة جديدة في تاريخها. إنها تنهل من البراغماتية مبدأها القاضي بتسويغ العمل بأية وسيلة لتحصيل الغاية (المنفعة)، لكنها تتمرّد على بعض طرائقها في الاشتغال: كانت البراغماتية ــ في صيغتها الميكيافيلية ــ حريصة دائماً على توسل المخادعة والتضليل لتحقيق غايتها، وكان النفاق في جملة ما توسلته لذلك. اما هذا الطور الجديد منها، وهذه المدرسة الحديثة الخارجة من رحمها، فالأمر فيهما مختلف، إذ تنصرف البراغماتية إلى البوح بأهدافها ووسائلها بدون كبير اكتراث بما يمكن أن يخلّفه ذلك من أثر في الآخرين. وليس هذا دليل خفّة أو قلّة درايةٍ لدى من يقومون على امر تطبيق هذا النوع من السياسة البراغماتية، بل هو مقصود «لتبليغ الرسالة: رسالة من يقصد الى مصلحةٍ متوسلاً هذا الأسلوب. إنه يبدي مطلبه بدون مراوغة، ويعلن عن وسائله التي سيستعمل، بل يبالغ في استعراضها وبيان ما تنطوي عليه من قوة إدراكاً منه أن ذلك أقصر الطرق إلى نيل الهدف.
في السياسة الدولية المعاصرة مثال لتينك السياستين البراغماتيتين: توسلت القوى الدولية الكبرى ــ المنتصرة في الحربين العالميتين الاولى والثانية ــ القانون الدولي والشرعية الدولية، ومبادئ حقوق الانسان، ومبدأ السلام العالمي، والتعاون وحسن الجوار، واحترام السيادات الوطنية، واللجوء إلى الحوار لفضّ المنازعات...، (توسلت كل ذلك) سبيلاً الى تحقيق مصالحها التي أدركت ــ بعد الحروب ــ أن في الوسع تحقيقها من خلال الاستقرار العالمي وعبر «التعاون» والمنافسة المشروعة والمحكومة بالضوابط. فكان أن أنشأت «عصبة الأمم» ثم الأمم المتحدة، وفرضت القانون الدولي مرجعية عليا يُحتكم إليها، وإن لم تمنع حروب الكبار على الصغار، ولا حروب الكبار بالوكالة (عبر الصغار).
أما القوة التي انتصرت في الحرب الباردة، فلم تعد تستطيع أن تخفي رغبتها في الذهاب إلى مصالحها بأسلوبها الخاص: القوة المسلحة والضغط والابتزاز.
ولأجل ذلك ما عادت ترى في القانون الدولي وهيئاته، وفي منظومة القيَم المرتبطة به، أدوات إجرائية للاشتغال، بل باتت ترى فيها قيوداً على حرية الحركة والتصرف. القانون الوحيد قانونها، والمعيار الوحيد معيارها، والقرار في الاول والمنتهى قرارها. أما الحرب، فطريقتها المفضلة لاختصار طريق السياسة!.
* استاذ جامعي - المغرب