محمد سيد رصاص *
راجت مقولة (موت الأيديولوجيا) في الفترة اللاحقة لسقوط الاتحاد السوفياتي، وقد وصلت الأمور، عندنا في بعض الأقطار العربية، إلى حدود تقديم طروحات تقول بأن الحزب هو مجرد برنامج سياسي ينتظم الناس حوله، من دون الحاجة إلى مصدر معرفي محدد يكون الأداة التحليلية للحزب في توليد رؤيته السياسية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ الثقافية وما يتولد عن هذه الرؤية من برنامج مرحلي (طروحات قدمت من أفراد في المؤتمر التداولي للحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي ـ في آذار 2001).
يلاحظ بأن طارحي هذه المقولات كانوا، أثناء تقديمهم لها، في حالة انتقال من موقع ايديولوجي محدد (الماركسية) إلى موقع آخر (الليبرالية)، ولو أن بعض الماركسيين العرب حاول، ومنذ البداية، تقديم تنظيرات تقول بتركيب من مصادر معرفية متعددة (الماركسية ـ الليبرالية ـ القومية ـ الإسلام)، دعا أصحابها إلى نشوء حركة سياسية ذات برنامج واحد يمتح من ذلك التركيب (انظر كتاب «حوارات»، دار الفارابي،1990)، فيما قال البعض الآخر بشيء قريب من ذلك من خلال دعوتهم إلى حركة ذات برنامج سياسي واحد مع بقاء التعدد الايديولوجي (مشروع قدّم من قيادة الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي ـ في عام 1998 لتحويل «التجمّع الوطني الديموقراطي»، الذي هو إطار تحالفي لخمسة أحزاب متعددة ايديولوجياً، إلى حركة واحدة، حيث لم ينجح ذلك المشروع ويتحول إلى التطبيق، رغم تأييد أمين عام «التجمع» المرحوم جمال الأتاسي وحزبه الناصري، وذلك بسبب مقاومة الجسم التنظيمي لـ«المكتب السياسي» والأمين الأول رياض الترك، الذي كان خارجاً حديثاً من السجن).
يلاحظ بأن هذه الحالة الانتقالية الايديولوجية لطارحي هذه الطروحات، من بين الماركسيين العرب، قد وصلت إلى خاتمتها في عام 2003 مع سقوط بغداد، عبر انتقال هؤلاء إلى ضفة ايديولوجية جديدة (الليبرالية)، ويلفت الانتباه ترافق ذلك مع طرح الإدارة الأميركية لمشروع ايديولوجي ليبرالي رافق جنازير دباباتها الزاحفة للمنطقة، تمثّل في «مشروع الشرق الأوسط الكبير» ـ 13 شباط 2004ـ، المقدم من قبل واشنطن بعد عشرة أشهر من احتلال العراق.
لم يكن هذا التحول مقتصراً على الجانب الايديولوجي،أو على تبديل أسماء الأحزاب، ومفاهيمها للتنظيم، وإنما امتد ذلك ليؤدي إلى انزياحات سياسية عن مواقف كان يتخذها المتحولون عن الماركسية عبر تاريخهم الحزبي ـ السياسي: شمل ذلك موقفهم السابق من «الغرب الإمبريالي»، ومواضيع مثل (العروبة)، وقضية الموقف من «تسوية» النزاع العربي الإسرائيلي، كما أن الكثيرين منهم قد أصبحت له مواقف جديدة تتعلق بمفهوم (الوطن) وتداخل الداخل والخارج ليصلوا إلى حدود تأييد «تدخلية دولية» في شؤون الداخل يمكن أن تقود إلى تغيير أنظمة أو أوضاع داخلية كما رأينا من خلال تأييد هؤلاء (أو مشاركة بعضهم) لما جرى في عراق 2003 ولبنان 2005، فيما يلفت الانتباه اصطفاف غالبية (إذا لم نقل الكل) المتحولين من الماركسية إلى الليبرالية في موقع كان بعيداً عن موقع المقاومة في حرب 12تموز الأخيرة بلبنان.
عندما طرح إدوارد برنشتين مراجعته للماركسية في عام 1898 فإنه كان واعياً وصريحاً عبر الورق بأن ذلك سيشمل الطبقات الثلاث من المبنى: الفكر، السياسة، التنظيم، وقد كان واضحاً من جدالات روزا لوكسمبورغ ولينين، ضده، بأن ذلك كان ممسوكاً من طرفي الصراع الذي هز الحركة الماركسية العالمية، حتى أدى إلى انشقاقها بعد عام 1917 إلى اتجاهين: شيوعي، واشتراكي ديموقراطي، وإلى أمميتين، ثالثة وثانية.
في هذا الإطار، يلاحظ بأن الصراحة والاستقامة الفكرية، في طرح القضايا، لم تكونا من سمات المتحولين العرب عن الماركسية: هل كان اتّجاههم إلى أسلوب الباطنية الفكرية ـ السياسية وعدم تبيان المحطات القادمة للقطار الذي يقودونه، ناتجاً عن عملية واعية عندهم (وهم يضمون قادة سياسيين بارزين ومفكرين ومثقفين) أرادوا فيها من خلال اللاوضوح ضمان عدم نزول الكثير من ركاب القطار أو وقوفهم ضدهم، أم أن الأمر ناتج عن مسار تحوّلي لم يكن أصحابه واعين لمآلاته، على طراز مفاعيل مبدأ (دهاء الفكرة) الهيجلي؟
* كاتب سوري