عبد الإله بلقزيز *
أتقنت الحركة الوطنية الفلسطينية طويلاً، قبل غيرها وأكثر من غيرها، كيف تلتقط متغيرات الوضع العربي الإجمالي ـــ ومحيطها القريب على نحو خاص ـــ فتصمم سياساتها على مقتضاه: استثماراً سياسياً وحراكاً نشطاً إن أسعفتها حقائقه، أو تراجعاً محسوباً يستدخل في الاعتبار ثقل معطياته السلبية على المسألة الوطنية الفلسطينية إن ألقى بتبعاته عليها ضائقة مضاعفة. ولقد تواترت وقائع تلك العلاقة الطردية بين بناء السياسات الفلسطينية وبين محصلة الوضع العربي ـــ كمورد رئيس من مواردها ـــ الى حدود الاقتران والتلازم الماهويين.
ونحن لا نملك أن نفهم اليوم لماذا كانت تتضارب في المُتجه مؤشرات الصعود والهبوط في أسهم الموقع السياسي الفلسطيني الرسمي ـــ منظمة وسلطة ـــ الا باحتساب قيمتها في بورصة أسهم الموقف السياسي العربي. وأي لون من الإدراك السياسي لها بتفعيل مفردات أخلاقـــــــــو ـــ سياسية من قبيل البطولة والمبدئية أو التـــــــفريط و«الخيانة» لن يقود إلا الى تسطيح الوعي بها والنظر اليها بمعزل عما يصنعها ويؤسس لها من ديناميات فوق ـــ فلسطينية: وقطعاً غير ذات صلة باعتبارات الأخلاق.
وعلى ذلك، من يريد اليوم أن يفهم ـــ على نحو دقيق أمثل ـــ لماذا كان سقف التطلعات الوطنية الفلسطينية عالياً في النصف الثاني من الستينيات بحيث استوعب ظواهر انعطافية من قبيل إطلاق الثورة المسلحة، والميثاق الوطني، وبرنامج التحرير الكامل، والدولة الديموقراطية على أرض فلسطين التاريخية، ورفض التسوية وأنصاف الحلول...، عليه أن يستذكر أن الحقبة كانت حقبة الناصرية وحركة التحرر الوطني العربية.
ومن يريد أن يفهم لماذا جرى الانتقال الفجائي من «الميثاق» الى «البرنامج المرحلي» (عام 1974)، عليه أن يســــــــــتعيد ما عنته حرب أكتوبر لدى من أطلقوها (حرب تحريك للتـــــــــــــسوية). ومن يـــــــــريد أن يفهم لماذا جرى «إعلان الاستقلال» في المجلس الوطني الفلسطيني (نوفمبر 1988) بعد خروج الثورة من المحيط المباشر لفلسطين (عامي 1982 و1983)، عليه أن يتذكر أن انتفاضة شعبية عارمة اندلعت قبل عام في قلب فلسطين فنقلت العمل الوطني من التخوم ـــ بل من المنافي البعيدة ـــ الى الداخل. وقل الشيء نفسه عن المشاركة الفلسطينية الاضطرارية في «مؤتمر مدريد» (في خريف عام 1991): فهي ما كانت لتتمكن (تصبح ممكنة) لولا نتائج العدوان الأميركي ـــ الأطلسي على العراق ونشوء «حلف حفر الباطن» العربي...
لم تختلف سيرة السلطة الفلسطينية عن سيرة منظمة التحرير في باب اتصال الموقف الفلسطيني بمحصلة الوضع العربي. ربما لا يستحق «اتفاق أوسلو»، سيء الصيت ـــ تبريراً ـــ لكنه قطعاً خرج من أحشاء التفاوض الرسمي العربي (السوري ـــ اللبناني ـــ الأردني) مع الدولة العبرية في مفاوضات واشنطن خلال عامي 1992 و1993. ولمّا قامت سلطة في مناطق الحكم الذاتي، تهافتت وأمعنت في إتيان المنكرات ضد المقاومة («حماس» حينئذ) لا لشيء إلاّ لأن الوضع الرسمي العربي ـــ برعاية أميركية ـــ حملها على إتيان ما أتته. لكن رئيسها وزعيم «شعب الجبارين»، مثلما كان يحلو له تسمية شعبه، انقلب على نفسه في لحظة مفاجئة فقلب مائدة التفاوض على «شريكيه» (بيل كلينتون وإيهود باراك) في مفاوضات «الوضع الدائم» في «كامب ديفيد الثانية» (يوليو/ تموز 2000) مطلقاً لاءاته الوطنية حول مشاريع الانتقاص من الحق في العودة ومن الحق في السيادة على القدس. مرة أخرى لم يكن ذلك نخوة من ياسر عرفات، أو صحوة ضمير أو شيئاً بهذه المثابة، بمقدار ما كان ثمرة قراءة سياسية عاقلة ويقظة لمتغير سياسي جديد في الوضع العربي هو نجاح المقاومة اللبنانية في دحر الاحتلال وتحرير الجنوب قبل مفاوضات «الوضع الدائم» بشهر ونصف شهر. بعد 25 أيار 2000 لا يشبه ما قبله في مطالعة ياسر عرفات، والانتصار العظيم الذي وقعه «حزب الله» في ذلك اليوم ليس قيمة سياسية في رصيد لبنان فحسب، بل في رصيد العرب أجمعين: وفي رصيد الفلسطينيين ابتداءً. ومثل أي قائد تاريخي من هذا العيار، كان عليه أن يضرب بيده الى ذلك الانتصار العظيم فينتهل منه الدرس القابل للتجنيد في معركة شعبه الوطنية.
،،، من يلقي نظراً ـــ هذه الأيام ـــ على الكيفية التي بها تدير القيادة الفلسطينية الحالية العلاقة بين سياساتها ومعطيات الوضع العربي ومتغيراته يلحظ أن وهناً دب في دينامية تلك العلاقة على نحو لم تعد فيه سياسات القيادة تلك تبدي أي شكل من أشكال الاحتفال بما يقع من تغيرات خارج حومة السياسة الأميركية والعربية الرسمية (ولك أن تضيف الإسرائيلية)! فلا شيء تغير في المشهد، ما زالت «دار لقمان» علىحالها: «خريطة الطريق»، و«المبادرة العربية» (= التفريطية بامتياز) في «قمة» بيروت، والغطرسة الصهيونية التي لا حدود لها ولا روادع... الخ. إذن، لا بد من مزيد من التنازلات لـ«الأصدقاء» الأميركيين، ولـ«الشركاء» الإسرائيليين، وللأشقاء العرب الحاكمين، لضمان قليل من العناية بأوضاع الفلسطينيين ومطالبهم. وفي سبيل ذلك، لا بأس من امتهان كرامة «فتح» الوطنية وتمريغ سمعتها في الأوحال، ومن ابتزاز «حماس» وضرب الخناق على الحكومة المنتخبة، ومن مدّ اليد اليسرى لسرقة ما أعطته اليمنى من أجل ميلاد «نظام ديموقراطي» في مناطق السلطة!
وماذا عن ملحمة المقاومة في لبنان ونصرها المؤزر؟ ليس ذلك من مشمولات تفكير النخبة الفلسطينية الحاكمة. قد يكون ما جرى بين الثاني عشر من يوليو (تموز) والرابع عشر من أغسطس (آب) 2006 في لبنان على درجة كبيرة من الأهمية للسيد حسن نصر الله وحزبه وجمهوره وللعماد ميشال عون وللبنانيين وللعرب المأخوذين بفكرة المقاومة، وربما لهوغو تشافيز وموراليس...، لكنه لا يمس الفلسطينيين وسلطتهم ورئيسهم ولا يغريهم بأي نوع من الاستثمار السياسي! (= تُرى، ماذا لو خسرت المقاومة ـــ لا سمح الله ـــ الحرب: أما كانت آثار الهزيمة سترتد مزيداً من الصلف الإسرائيلي ومزيداً من الإذلال للموقف الفلسطيني؟!)
ليس الاستثمار المطلوب شيئاً أكثر من تصليب الموقع السياسي في مواجهة الإملاءات الأميركية والإسرائيلية، بل حتى في الاعتذار عن عدم التجاوب معها. مثلاً: الاعتذار عن عدم الرغبة في ممارسة المزيد من الضغط على «حماس» أو ابتزاز الحكومة في مسألة الاعتراف بالكيان الصهيوني؛ الكفّ ـــ مجرد الكف ـــ عن ارتجال عبارات الغزل في «خريطة الطريق» أو إبداء آيات «التمسك الثابت» بها، والاهتمام بدلاً من ذلك بتحصين الوحدة الوطنية في مواجهة ضغوط العدو وحلفائه الدوليين، إطلاق جهد سياسي وديبلوماسي مشترك بين الرئاسة والحكومة لرفع الحصار عن الشعب الفلسطيني وإسقاط الذرائع المكذوبة الموحية بأنه حصار على «حكومة حماس»؛ المطالبة ـــ مثلاً ـــ بعقد مؤتمر دولي ترعاه الأمم المتحدة لتطبيق القرارات الدولية بعد فشل «الرعاية» الأميركية في تحقيق ما وعدت به في مدريد...
لن يحتاج ذلك كله ـــ وغيره ـــ من السلطة إلى أن تغير تحالفاتها فتنتقل الى معسكر «حزب الله» و«حماس» وسوريا. لم ينتقل ياسر عرفات الى هذا المعسكر، لكنه أتقن كيف يستثمر انتصاراته (أعني المعسكر) كي يحسّن موقــــعه الســـــــيادي، وكي يقول لا عند الاقتضاء.
* استاذ جامعي - المغرب