غسان سعود
في خضم السجال اللبناني والدولي في الدور الإيراني في لبنان، وخصوصاً بعد العدوان الإسرائيلي الأخير، تزداد حشرية المجتمع اللبناني، المسيحي منه في شكل خاص لمعرفة المزيد عن الارتباطات الدينية والسياسية والثقافية بين شيعة لبنان وشيعة إيران، وخصوصاً أن منذ «الرسالة المفتوحة» التي أرّخت الانطلاقة الرسمية لحزب الله في لبنان في 16 شباط 1985، البعض يتهم الحزب بفرسنة لبنان وإعلانه جمهورية إسلامية. وبعد أكثر من عقدين على تنظيم العلاقة بين السلطة الشيعية الفارسية في إيران وحزب الله الشيعي في لبنان، يلاحظ مدير معهد العلوم الاجتماعية ــ الفرع الأول في الجامعة اللبنانية، الدكتور طلال عتريسي أن الصلة الأساسية بين شيعة لبنان وإيران تعود إلى عهد الدولة الصفوية في بلاد فارس حين انتقل بعض علماء الشيعة من لبنان إلى إيران، ونشروا التشيع، حتى اعتمد مذهباً رسمياً للدولة الصفوية. لاحقاً، في عام 1960، برز الإمام موسى الصدر الإيراني من جذور لبنانية، الذي مهد لقيام «الكيان الشيعي المستقل» في لبنان عبر تأسيس عدة لجان اجتماعية وثقافية، ومؤسسات دينية وخدماتية. وكان الصدر العلاقة الشيعية الايرانية الأولى في تاريخ لبنان الحديث، قبل ظهور أفواج من الحرس الثوري الإيراني في الجنوب اللبناني والبقاع. بعدما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران ووصل الخميني إلى السلطة، وأعلِنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتزامن ظهورهم في لبنان مع مواجهات عنيفة على الجبهة العراقية لوقف التمدد الفارسي في اتجاه الخليج، ومنع امتداد الثورة إلى شيعة العراق.
هكذا، وفّرت الجمهورية الاسلامية الإيرانية دعماً معنوياً ومادياً للمجموعة الشيعية في لبنان، وازداد انجذاب شيعة لبنان للدراسة في الحوزة الدينية في قم الإيرانية. وشكلت «الجمهورية الإسلامية» قوة دفع للكيان الشيعي اللبناني عبر الدعم المالي وبناء المؤسسات التعليمية والطبية والاجتماعية. ويؤكد عتريسي أن إيران لم تبدأ من الصفر في رسم معالم الواقع الشيعي الجديد في لبنان. وإنما بدأت مع كيان شبه مُكَوّن. وهي وفرت الدعم لقيادة شيعية لبنانية واعية حولت الدعم إلى مؤسسات مختلفة. لكن الصلات المختلفة للشيعة اللبنانيين بإيران لم تنعكس تغييراً ملحوظاً في السلوك الاجتماعي الذي يتبعه شيعة لبنان. وبقيت عاداتهم وتقاليدهم جزءاً من انتمائهم اللبناني والعربي في شكل أساس، وخصوصاً أن ثقافة الشيعة اللبنانيين مُشَكَّلَة، وليست قيد التشكل. ويمكن لحظ أن تعلّم اللغة الفارسية، مثلاً، ينحصر في قلة تستخدمها في شأن خاص تجاري أو مهني أو أكاديمي. وحتى الطلاب الذين قصدوا إيران للتعلم لم يتمسكوا بالتقاليد الإيرانية لأن المجتمع الإيراني، بحسب العتريسي، مجتمع متحول، مُشَكّل من عدة ثقافات.
أما في اللباس، فلا يتمايز اللبنانيون الشيعة عن اللبنانيين الآخرين إلا في امتناع الملتزمين في حزب الله عن ارتداء ربطة العنق، استجابة منهم لتعاليم المرجعية الدينية الإيرانية، وقبولهم مبدأ «ولاية الفقيه» وبالتالي اتّباع جميع تعاليم الخميني الدينية. أما حجاب الفتيات الشيعة فلم يُنقل عن حجاب الإيرانيات، ولا يشبهه حتى. فأغلبية الإيرانيات يرتدين وشاحاً رقيقاً لا يغطي مقدمة الجبين ولا يصل أبعد من الرقبة، فيظهر شعر الفتاة. ويختلف نمط حياة الفتاة في إيران عن نمط حياة الفتاة اللبنانية، إذ إن الحياة هناك، بحسب العتريسي، شبيهة بالحياة الأوروبية، وثيابهم أكثر عملية وراحة من ثياب الفتيات الشيعة في لبنان. وفيما يتعلق بالمطبخ، فاللبنانيون عموماً لم يعجبوا بالمطبخ الفارسي الشبيه بالمطبخ التركي. ولم يأخذوا منه سوى الزعفران. وفي الضاحية الجنوبية يمكن تعداد الكثير من المطاعم الجديدة التي تقدم مأكولات غربية على نسق «الماكدونالدز» و«البرغر كينغ». ولا يوجد أي مطعم يقدم مأكولات إيرانية.
وحتى في أشكال العبادة. ثمة اختلاف، وخصوصاً في تقاليد إحياء أحد أبرز المناسبات الدينية عند الشيعة، ذكرى عاشوراء. وتجدر الاشارة إلى ثلاثية المراجع الرئيسية عند الشيعة اليوم، فكثيرون يعتقدون بمرجعية خامنئي في إيران، وهناك من يعتقد بمرجعية السيستاني في النجف، أو بمرجعية السيد محمد حسين فضل الله في لبنان. وهو أمر غير طارئ عند الشيعة، فعند ذروة الخمينية، وُجد من يُقلّد غيره.
علماً أن أكثر ما يهمّ شيعة لبنان، في علاقتهم مع إيران، إلى جانب توفير السلاح لحزب الله، هو المنح التعليمية. وهي، بحسب كثيرين، أفضل ما قدمته لهم الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وقد أكملت الجمهورية الإسلامية في هذا السياق ما بدأه الاتحاد السوفياتي. ومنذ منتصف الثمانينيات، بدأ يزداد في الجنوب وبعلبك والهرمل والبقاع الغربي تأسيس المدارس الخاصة وأشهرها المبرات، أمل، مدارس المهدي والمصطفى، بعدما كانت تنحصر في مدارس العاملية ومؤسسات الإمام الصدر في بيروت وصور. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المدارس جميعها لا تُدرّس اللغة الفارسية، على الرغم من أن اللغة هي مفتاح الغزو الثقافي لأية حضارة.
ويشير العتريسي إلى أن الكلام على الولاء السياسي عند شيعة لبنان لإيران غير دقيق. والكلام على تنفيذهم كل ما تطلبه إيران غير صحيح. فما يحصل غالباً هو دعم إيران للقرارات التي تتخذها المجموعات الشيعية حيثما وجدت، سواء في لبنان أو الكويت أو باكستان أو العراق أو غيرها من الدول. ويُسجل بعد الكثير من المشاهدات الميدانية والبحث، أن شيعة لبنان لم يأخذوا من الفارسيين سوى «السجاد العجمي» و«الدخان العجمي» و«الزعفران» و«السماور»، وبعض الأشياء الصغيرة الأخرى، وبقيت ثقافتهم على حالها مزيجاً من العروبة والإسلامية واللبنانية، وهو المزيج نفسه المكون لجميع الكيانات «الطائفية السياسية الاجتماعية» في لبنان.