صالح ج. آغا *
من أكثر التطوّرات في الفكر السياسي العربي المعاصر لفتاً للنظر تحوُّل بعض اليسار العربي التقليدي القديم نحو منحى ليبراليّ جديد، ممزوج بحنين لماضٍ استعماريٍّ من المفترض أنه متنوّر. والسؤال هو: ما تفسير هذا الحنين؟
من الممكن النظر إلى هذا السؤال كسؤال يستدعي بحثاً تاريخياً واجتماعياً ميدانيّاً في الأسباب التي أدّت إلى هذا التحوّل نحو الليبرالية. ولكن ما أودّ أن أطرحه هنا هو مسألة فلسفية في الفكر السياسي العربي (والغربي) حول كون المنحى الليبرالي الجديد لبعض اليساريين القدامى نابعاً من افتراضات مشتركة بين الفكر اليساري لهؤلاء من جهة، والليبرالية الأوروبية من جهة أخرى، تجعل من «ردّة» هؤلاء اليساريين إلى الليبرالية نوعاً من «العودة» إلى منابع الفكر اليساري.
لا أودّ الغوص في مسائل في تاريخ الفكر اليساري العربي، ولكن أود فقط أن ألفت النظر إلى عداءٍ يشترك فيه الليبراليون واليساريون العرب لنوع من الفكر السياسي ــ العداء للفكر الديني الغيبي المتمثّل هذه الأيام بالحركات الإسلامية على أنواعها، من غير التفريق بين هذه الأنواع. وينبع هذا العداء من جذورٍ مشتركة لفكر الليبراليين واليساريين في فلسفة التنوير الأوروبية التي تدعو إلى رفض أي سلطة على الفكر غير سلطة العقل.
تاريخياً، وفي اللحظة المعينة التي بدأت فلسفة التنوير الغربية (الأوروبية) بتكوين وعيها، كانت السلطة الأساسية التي نُظِرَ إليها كمكبِّلة لحرية الفكر والبحث هي سلطة الكنيسة الدينية. وفي هذه الحال، لم يكن من الغريب أن نجد أن الفكر الغيبي الديني كان العدوّ الأكبر في نظر دعاة التنوير ــ مع أن بعض أهم فلاسفة التنوير، أمثال كانط مثلاً، كانوا من المؤمنين دينياً ويودّون فقط الفصل بين الدين والأمور الدنيوية حيث حكم العقل هو الوحيد الذي يجب أن يسود.
نشأ اليسار الأوروبي في هذه البيئة التنويرية الغربية وشارك في افتراضاتها الأساسية عن دور العقل في تحديد الأشكال المقبولة والممكنة لأنماط العيش الاجتماعي، فانتقد بعض اليساريين نمط الإنتاج الرأسمالي، لا كنمط إنتاجٍ غير إنساني فقط، ولكن كنمطٍ «لاعقلاني» أيضاً. وشارك اليساريون الأوروبيون أعداءَهم الليبراليين الرأسماليين في نقد قيود التقاليد المتوارثة على الفكر والإنتاج ورفضها، حتى إن بعض اليساريين نظر إلى عنف الاختراق الرأسمالي محرّراً من قيود التقاليد البالية وقوةً تهدم المتوارَث مُفسحةً المجال لبناء مستقبل أكثر عقلانية وإشراقاً.
كما ذكرنا، الأساس الفلسفي لهذا الرفض المشترك للتقاليد المتوارثة كان رفضاً لأي سلطة إلاّ سلطة العقل. ولكن، مع مرور الزمن، بدأ النظر إلى الإيمان المطلق بقدرة العقل على فهم العالم الدنيوي وتفسيره كتقليد موروث هو الآخر. وقد أدت بعض التطوّرات السياسية والاجتماعية المخيفة في القرن العشرين ــ من خنادق القتل في الحرب العالمية الأولى إلى معسكرات الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية ــ إلى كثير من الشكّ في قدرة العقل على إضاءة طريق بدأ يظهر مظلماً، وخصوصاً في الأمور الاجتماعية والسياسية. بالإضافة إلى ذلك، بدأت العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تبحث في هذه الأمور بزرع بذور الشكّ في وجود مفهوم موحّد للعقل يجمع بين كلّ الحضارات والثقافات. ووصلت الأمور إلى حدّ بدا معه الإيمان بالعقل بمفهومه الغربي كمصدر أوحد للحقيقة تقليداً بحاجة إلى إعادة النظر. وبدا الرفض الكلّي لدور التقاليد المتوارثة هو الآخر نوعاً من التفكير التقليدي الواجب وضعه تحت المجهر. ومع هذا النوع من الشكّ بدأت أنماطٌ أخرى من التفكير تلاقي رواجاً، أنماطٌ صنّفها البعض تحت اسم «ما بعد الحداثة» (مع أن وجودها بشكل أو بآخر في التراث الفكري للبشر يسبق ظهور الحداثة نفسها).
طبعاً، حتى قبل تطوّرات القرن العشرين المخيفة الآنفة الذكر، كانت بذور هذا الشك في سلطة العقل المطلقة موجودة منذ البداية في فكرٍ مبنيٍّ أصلاً على رفض كلّ سلطة مطلقة تكبِّل الفكر. ومنذ بدايات الفكر التنويري الأوروبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أثار بعض الفلاسفة الشكوك حول سلطة العقل وقدرته على إضاءة الطريق من غير الرجوع إلى التقاليد والتجربة المتراكمة. وكان هذا النوع من النقد يُوصَفُ في بعض الأحيان من أنصار الفكر التنويري بما فيهم معظم اليساريين بأنه تفكير مظلم وبدائي وغيبي. فما يجمع أنصار هذا الفكر التنويري من يساريين ورأسماليين ليبراليين كان يُعتبر أعمق بكثير ممّا يجمع اليساريين مع أعداء الرأسمالية التقليديين ــ الإقطاع الأوروبي والكنيسة وخاصة التفكير الغيبيومع صعود الانتقادات الفلسفية الغربية لبعض أهم افتراضات الفكر التنويري الغربي التقليدي ابتداءً من أواخر الستينيات من القرن الماضي، شرع بعض اليسار الغربي في التغيّر بشكل راديكالي وبهضم هذه الانتقادات. ولكن البعض الآخر تمسّك بجذوره «العقلانية والتنويرية» التقليدية. وفي هذا ما يفسّر بعض الشيء «عودة» بعض اليسار الغربي في أواخر القرن الماضي إلى أنماط من التفكير الليبرالي تحت مسميات عدة مثل «الطريق الثالث» تبدو كأنها تسميات لأنماط جديدة من الفكر السياسي مع أنه من الصعب العثور على أي شيء جديد فيها لا يوجد في أدبيات الفكر الليبرالي التقليدي. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمـــانينيات وأوائل التسعينيات، بدأ نجــــم الحركات اليسارية الغربية في الأفول كقوى انتقادية رافضة للواقع الرأسمالي، وبدت بعض هذه القوى كأنها مجرّد أنماط من الفكر الليبرالي الغربي التقليدي (ينطبق هذا أيضاً على بعض اليساريين العرب، إذ من الصعب تحديد ما يمـــــيّزهم عن اللـــــيبراليين العــــرب التــــــقلـــــيديين).
بالعودة إلى اليساريين العرب، علينا ألا ننسى أن المعضلة الأساسية التي كانت تواجه هؤلاء وغيرهم من المفكرين «التنويريين» العرب في القرن العشرين كانت معضلة الاستعمار الأوروبي، وخصوصاً بعد نجاح مفكّري «عصر النهضة» العربية في معركتهم ضدّ أنماط التفكير التقليدية الغيبية في السيطرة على الفضاء الفكري العام. ولفترة طويلة من الزمن، كانت الحركات اليسارية والليبرالية الوطنية التنويرية من ورثة «عصر النهضة» العربية والعصور التي تلته تحتكر النضال ضدّ الاستعمار، بينما جلست الحركات السياسية التقليدية، والإسلامية منها بشكل خاص، في المقعد الخلفي غير قادرة على النهوض السياسي، بل ذهب بعضها إبّان الحرب الباردة إلى التعاون مع «الغرب اليميني المؤمن» ضدّ «الشيوعية اليسارية الملحدة».
اعتبر الكثير من اليساريين العرب عدائهم مع الغرب صراعاً سياسياً على السلطة في البلدان المستعمرة، أو جزءاً من الصراع لأجل تحقيق العدالة في توزيع الثروات من خلال رفضهم لنهب ثروات المستعمرات من القوى الاستعمارية. ولم يرَ هؤلاء اليساريون في هذا الصراع مع الغرب الاستعماري صراعاً مع حضارة تريد فرضَ قيمها على حضارات أخرى كما نظر إليها بعض الإسلاميين. بل أكثر من ذلك، نظر بعض اليساريين العرب إلى الغرب مصدراً لفكرهم التنويري ونموذجاً للتقدّم الواجب اللحاق به. لذلك، كما في الحالة الأوروبية، كانت الأصول المشتركة التي تجمع هذه التيارات اليسارية العربية مع الفكر الليبرالي الغربي أعمق بكثير من العداء للاستعمار الغربي الذي يجمعها مع الحركات التقليدية العربية المتضرّرة منه والمناهضة له، حتى إن بعض اليساريين العرب رأى في الغرب واستعماره قوة تقدّم تدمّر القوى التقليدية العربية وتفسح المجال أمام تطوّر عربي، تماماً كما نظر بعض اليسار الأوروبي إلى الرأسمالية كقوة تقدّم تدمّر قوى الإنتاج وعلاقاته الإقطاعية وتفسح المجال أمام بناء نظم أكثر تقدّماً وعقلانية وتحرّراً. ومع نهوض الحركات السياسية الإسلامية في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وأفول نجم الحركات اليسارية العربية بسبب فشلها في إحداث تغيير حقيقي في بنية المجتمعات والأنظمة العربية، بالإضافة إلى فشلها في دفع المعركة الوطنية ضد إسرائيل إلى آفاقٍ تسمح بالنجاح فيها، كان من الطبيعي أن يتجه بعض اليسار العربي نحو حلفاء في الفكر الليبرالي التنويري حتى لو كان ذلك على حساب عداء هذا اليسار للاستعمار الغربي. وتجلّى ذلك أول ما تجلّى في موقف بعض اليسار العربي من الثورة الإسلامية في إيران ومن انتصار الجبهة الإسلامية الوطنية في الانتخابات الجزائرية في أوائل التسعينيات. وهكذا بدأنا نجد عدداً لا بأس به من اليساريين العرب يعلنون حنينهم للاستعمار الغربي وينحون منحىً ليبرالياً بسبب عدائهم الأشد للفكر الديني وبسبب منطلقاتهم المشتركة مع الغرب الليبرالي.
واللافت للنظر في هذا العداء غير المستجدّ من بعض اليسار للحركات الإسلامية على أنواعها أنه يقتصر على تأكيد جازم لقِيَم التنوير التقليدية من دون الردّ على الانتقادات الكثيرة والعميقة لهذه القِيَم التي ظهرت في القرن الماضي. فبدل أن يفهم التنوير كرفض لأي قيود على التفكير الحر، وكالتزام بالنقد الذاتي المستمر، وكالطريق الأمثل إلى فهم أفضل للعالم وإلى علاقات إنسانية أكثر سويّة، يتعامل بعض اليسار الليبرالي العربي مع هذه القِيَم كمنظومة تقاليد جديدة يجب التقيّد بها من دون أي نقد. وبهذا يتحوّل هذا اليسار الليبرالي إلى نوع جديد من الأصولية الفكرية التي ترفض أي إثارة لأيِّ نوعٍ من الشكوك حول منظومتها القِيَميّة، وتتعامل مع الغير إما كأغبياء لا يفقهون ما يقولون، وإما كجماهير «مُضَلَّلة ومخطوفة»، وإما كأشرار. وفي هذا البُعد، كلّ البُعد، عن مفاهيم التنوير الحقيقية. فبعض الأصوليين الدينيين أيضاً يرون في معارضيهم أشراراً أو مُضَلَّلين، ويرفضون قبول أي نوع من الشك حول منظومة قِيَــــــــــمهم المتوارثة. والعجيب فعلاً في مواقف بعض اليساريين اللـــــيــــــــبراليين هو رفضهم في دخول أي نقاشٍ حقيقي مع معارضـــــيهم الأصوليين يتجاوز الســــباب والســـــخرية، كأنهم بذلك يحاولون فرض آرائهم على الغير من خلال طرق غير عقلانية.
ختاماً، لا ينفي ما ورد آنفاً أن الكثير من اليسار العربي التقليدي لم يتّخذ هذا المنحى الليبرالي المُفَضِّل للاستعمار الغربي، بل إن الكثير من اليسار العربي التقليدي ما زال يُعطي الأفضلية للمعركة الوطنية ضدّ الاستعمار بأشكاله القديمة والمتجدّدة على معارك أخرى. ولهذا أسباب عديدة، قد يكون بعضها مرتبطاً بعدم قدرة هذا اليسار على القيام بعملية نقد ذاتي حقيقية لماضيه وماضي تحالفاته مع قوى وأنظمة ديكتاتورية، أو بسبب رغبة لديه في ركوب موجة شعبية أثبتت قدرتها على تحريك الشارع، أو بسبب تأليهه للجماهير وحسّها الفطري، أو لأنّه أصلاً كان ينظر إلى معركته مع الاستعمار كمعركة حضارية في جزءٍ منها، أو ربّما بسبب إعادة قراءة من قِبَلِه لجذوره الغربية وهضمه للانتقادات الموجّهة لقِيم التنوير الأوروبي في أدبيات ما بعد الحداثة، أو لأسبابٍ أخرى لا مجال لبحثها.
*أستاذ جامعيّ ورئيس سابق لدائرة الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت.