جورج قرم *
تدعونا الأحداث المأسوية الأخيرة إلى المبادرة فوراً لدراسة التداعيات التي خلّفتها هذه الأحداث على لبنان. بداية، لا بد من التأكيد على أن إسرائيل وحلفاءها المباشرين وغير المباشرين في أوروبا والعالم العربي، سيحاولون إعادة قولبة لبنان بما يتناسب مع مصالحهم. وسوف تفتح جملة من العبارات الواردة في القرار الدولي 1701 الباب واسعاً أمام التدخل الدائم لهؤلاء في شؤوننا الداخلية. ومن المتوقع أن تزداد وتيرة هذه التدخلات التي كانت قد تبدّت واضحة خلال الأشهر التي سبقت العدوان الإسرائيلي. وسيكون على اللبنانيين الاختيار بين طأطأة الرؤوس أو مواجهة أخطار حرب أهلية جديدة، ولكن على اللبنانيين رفض الدخول في هذه المفاضلة وسيكون عليهم أن يلتزموا الحذر كي لا يسقطوا في فخ الخطاب الإسرائيلي والغربي حول مسألة السيادة الوطنية اللبنانية.
بالنسبة إلى السيادة والدفاع الوطني الذاتي، ها هي المبادئ التي يجب أن نتوحد حولها:
1 ـ من الضروري إخراج لبنان من وضعه الحالي كدولة «حاجز» (الدولة الحاجز Etat tampon) هي التي تقع بين دولتين أو أكثر لمنع حصول صدام في ما بين الدول الأخرى، تستخدمها القوى الإقليمية والدولية من أجل تحقيق مصالحها الخاصة.
2 ـ لهذا السبب، لا بد من تطبيق مبدأ سيادة الدولة بالفعالية عينها إزاء الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين كما إزاء المحور الإيراني ـ السوري أو المحور العربي المعارض له. ويجب أن نبقى مخلصين لمبادئ الميثاق الوطني كما طوّرها الجنرال فؤاد شهاب: في حال حدوث مواجهة بين الشرق والغرب، لا يمكن للبنان إلّا أن يقف في صف الشرق، كما لن يكون بمقدوره الانضمام إلى أي محور يؤيد الغرب. إن سرّ الاستقرار اللبناني يكمن في احترام هذا المبدأ.
3 ـ على هذا الأساس، لا يمكن لقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بلبنان (1559، 1680، و1701) أن تصبح أداة في خدمة السياسة الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. كما لا يمكن أن تستخدم هذه القرارات ذريعة لفرض وصاية على سياسة لبنان الخارجية والدفاعية وجرّه لاتخاذ مواقف عدائية ضد سوريا. فالتطبيق الصحيح لهذه القرارات من دون أي تردد أو توتر داخلي، يحتم على إسرائيل تطبيق القرارات المتعلقة بها.
4 ـ إن مبدأ السيادة لم يكن ليجيز الخروق الإسرائيلية الجوية والبحرية والبرية للبنان والمتواصلة منذ عام 1968.
5 ـ ومثلما نرفض بحزم البيانات السورية أو الإيرانية غير المقبولة حول لبنان والتي يمكن أن تفسّر على أنها تدخّل في الشؤون اللبنانية الداخلية، يجدر بنا أن نتخذ الموقف عينه من التصريحات اليومية التي غالباً ما تتسّم بالعدوانية وتفتقر إلى المغزى، لبعض السفراء الغربيين في بيروت الذين يمارسون ضغوطهم على الحكومة اللبنانية، بما يخالف كل الأعراف الديبلوماسية. والأمر عينه ينطبق على تصريحات المسؤولين الغربيين حول لبنان، وهي تصريحات تشكل في أكثر الأحيان تدخلاً سافراً في شؤوننا الداخلية.
6 ـ إن مسألة سلاح حزب الله هي مسألة داخلية لبنانية يجب أن تعنى بتسويتها حكومة وحدة وطنية بعد إجراء انتخابات تشريعية جديدة وفقاً لقانون انتخابي جديد، علماً أن على لبنان أن يمتلك الوسائل الحقيقية التي تخوّله الدفاع عن نفسه أمام إسرائيل التي ما انفكّت تعتدي عليه منذ 30 سنة.
7 ـ لا يعقل أن يقبل لبنان بأن تكون إدارة منطقتنا محصورة بواشنطن وتل أبيب. على أي حال، إن لبنان «السيّد» لا يمكن أن يوافق على سياسة كهذه، بل عليه أن يرفضها رفضاً قاطعاً من دون أن يضطره ذلك إلى الاصطفاف خلف طهران أو دمشق.
8 ـ إذا صحّ القول إن حزب الله اقترف خطأ فادحاً في الحسابات عند إقدامه على اختطاف الجنديين الإسرائيليين، الأمر الذي أدّى إلى هبوب هذه العاصفة العاتية على لبنان، إلّا أنه يبدو أيضاً أن ما قام به حزب الله كشف ضخامة التحضيرات الأميركية والإسرائيلية لتركيع لبنان وتطبيق القرار 1559 بالقوة، بدلاً من تحقيق ذلك عبر الحوار الوطني اللبناني، وهذا ما أثبت أيضاً هشاشة السيادة اللبنانية.
وفي ما يخص العلاقات اللبنانية مع سوريا وإيران، ثمة بعض العناصر المفيدة:
1 ـ إن سوريا كانت وستبقى جارة نتشارك معها الكثير من الروابط اللغوية، والثقافيّة، والإنسانية فضلاً عن التاريخ المشترك. وأياً كانت أخطاء الحكومات السورية المتعاقبة تجاه لبنان، وبغضّ النظر عن الأعمال العدائية والعنيفة أحياناً التي ارتكبتها سوريا بحقّنا، فلا يمكن أن نقبل المنطق القائل بأن إسرائيل أقل ضرراً من سوريا على لبنان، وبأنها، بالنسبة إلى البعض، تساعد اللبنانيين على التخلص من التأثير السلبي والمضرّ لجارتنا. فسوريا تمثل رئة اقتصادية للبنان. ومن المشين فعلاً أن تتم المقارنة بين سوريا وإسرائيل في ما يتعلق بعلاقتيهما مع لبنان.
2 ـ ليس على اللبنانيين أن يعملوا لحساب الأميركيين والفرنسيين من أجل إسقاط النظام في دمشق أو الحكم عليه انطلاقاً من إدارته السابقة للبنان. فهذه مهمة يفترض بالشعب السوري أن يقوم بها يوماً ما. بل علينا نحن اللبنانيين أن نحاكم السياسيين اللبنانيين عن مسؤولياتهم في تدهور العلاقات اللبنانبة ـ السورية منذ عام 1992. فهؤلاء هم من وافق النظام السوري على كل التسويات مقابل إطلاق أيديهم لنهب البلد عبر انتهاج سياسة إعادة إعمار مريبة. ولا يفترض بالزعماء اللبنانيين أن يتدخلوا في النزاعات الداخلية في النظام السوري وأن يدعموا جناحاً دون آخر في هذا النظام. علماً أن هؤلاء الزعماء هم أنفسهم الذين انتقلوا من الخضوع السياسي لسوريا إلى الخنوع الأعمى للولايات المتحدة وسياستها الرامية إلى إقامة الشرق الأوسط الجديد.
3 ـ إن الدور المهم الذي اكتسبته إيران في إدارة شؤون العالم العربي وتنامي شعبيتها في أوساط الرأي العام اللبناني والعربي، يعود إلى تخلي الأنظمة العربية عن مسؤولياتها القومية في مواجهة السياسة الإسرائيلية ـ الأميركية للسيطرة على الشرق الأوسط. فلو لم تمتثل هذه الأنظمة للضغوط الأميركية والإسرائيلية، لما كانت إيران اكتسبت الدور الإقليمي الذي تلعبه الآن في الدفاع عن حقوق العرب في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية. إذاً ليس من مصلحة لبنان أن يساهم في تشويه صورة إيران كما تفعل الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول العربية.
في ما يتعلق بمصير حزب الله في التركيبة اللبنانية، يمكن التذكير ببعض الحقائق التاريخية التي قد تساعدنا:
1 ـ لم تكن الطائفة الشيعية هي الوحيدة التي تأثرت ثقافياً ودينياً وسياسياً بقوى خارجية، فالموارنة والسنّة والروم الأرثوذكس والدروز لا يشذّون عن هذه القاعدة، إذ إن كل واحدة من هذه المجموعات الإثنية تتماهى منذ عام 1840 حتى اليوم مع إحدى الدول الأوروبية أو الشرقية، لذلك فهي تخضع للنفوذ الثقافي والديني والسياسي لهذه الدول.
أ‌. في الواقع كان المسيحيون عموماً والموارنة على وجه الخصوص هم روّاد تغيير الأزياء التقليدية اللبنانية عبر تقليد الأوروبيين، وهم من أدخل تعليم اللغة الفرنسية أو الإنكليزية في المنهاج التعليمي في لبنان، الأمر الذي أحدث ثورة محلية. ولكن الخارج كان له الدور الكبير في تحريك هذه الثورة، علماً أن النخب المارونية كانت في الوقت عينه شريكاً فاعلاً في النهضة العربية وكانت جزءاً منها.
ب‌. وأما السنّة والدروز فهم الذين حافظوا ردهاً من الزمن على التصاقهم بالأمبراطورية العثمانية التي اضطهدت بعض الفصائل اللبنانية التواقة إلى الانعتاق من السيطرة العثمانية. وهكذا لم يكن السنّة معنيين إلى حد كبير بالكيان اللبناني، واستمروا لعقود خلت من بين أشدّ المناصرين للقومية العربية والحركة المناهضة للإمبريالية بقيادة جمال عبد الناصر، والمؤيدين الأكثر التزاماً للوجود الفلسطيني المسلح في لبنان الذي ساهم بشكل كبير في زعزعة الاستقرار اللبناني خلال السبعينيات. أما اليوم فهم يخضعون لتأثير السعودية والولايات المتحدة وفرنسا. غير أن الزعماء السنّة هم أيضاً من عزّز البعد العربي للبنان.
(حلقة ثانية وأخيرة غداً)
* وزير المالية الاسبق - مفكر وكاتب