منير شفيق *
الاتفاقية الدولية الخاصة بعدم الانتشار النووي وبروتوكولاتها تعطي الحق للدول الموقعّة عليها بأن تمتلك القدرة النووية للأغراض السلمية، بما في ذلك التخصيب بحدود لا تتعدّى الـ5%.
ومن هنا، فإن من حق إيران بناءً على تلك الاتفاقية وبروتوكولاتها أن تخصّب في تلك الحدود، وأن تستخدم إنتاجها النووي للأغراض السلمية. وهو حق لكل بلدان العالم. وقد مارسه فعلاً عدد من الدول التي تحصر نفسها في الانتاج السلمي للطاقة النووية، مثلاً البرازيل، الأمر الذي يضع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وروسيا والصين في الموقف الظالم وغير القانوني من وجهة نظر اتفاقيات الوكالة الدولية للطاقة النووية ولا يصحّ بصورة خاصة، لأية دولة عربية أو إسلامية بالانحياز إلى هذا الموقف. لأنه فضلاً عن لاعدالته، ولا قانونيته، يشكل سابقة تعطي للدول الكبرى «الحق» في منع أية دولة من دولنا من أن تحذو حذو إيران، ما يعني الحكم على إبقائنا دون سقف التكنولوجيا العالية بعيدين من العلوم والتقنيات والصناعات المرتبطة بالدخول إلى عالم التخصيب النووي والأبحاث النووية للأغراض السلمية والعلمية، بما فيها الدوائية والطبية، ناهيك عن الطاقة النووية نفسها.
أميركا ومن لفّ لفّها من الدول الكبرى تدّعي أن إيران تنوي إنتاج القنبلة النووية، وأنها تشك في نيّاتها، ولهذا يجب أن توقف التخصيب ولا تقترب من البحوث النووية حتى ضمن حدود الـ5% أو دونها. فالتهمة هنا مقامة بعيداً من اتفاقات الوكالة الدولية للطاقة النووية وبروتوكولاتها. وبدهي أن الشك في النيّات لا يقيم دعوى، ولا يشكل حجّة، ولا يجوز أن يتحوّل إلى سابقة في الحياة الدولية الراهنة. لكن ما العمل إذا كانت أميركا تتصرّف بعقلية الديكتاتور (الديكتاتور الإسرائيلي) في ما يتعلق بالعرب والمسلمين؟ وما العمل إذا كانت هنالك دول أخرى تسير على مذهبها أو تبيعها المواقف مقابل صفقات جانبية؟ وهو ما أخذ يحرف مجلس الأمن عن دوره في هذه الأيام أكثر من أي يوم سابق، بل حوّله إلى أداة تعبّر عن الصفقات الدولية، لا عن ميثاق هيئة الأمم والقانون الدولي. وبهذا فقدَ الحد الأدنى من التوازن ومن ثمّ فقدَ دوره وهيبته وأصبح مطعوناً بقراراته، بما لا يسمح باعتبار ما يقرّره، والحالة هذه، ضمن إطار الشرعية الدولية، فكيف ادعاؤه بأنه يمثل «المجتمع لدولي».
لكن لو وضع كل ذلك جانباً وتوقفنا عند حجّة الشك في النيّات. فكيف يُزال هذا الشك ويسّلم لإيران بحقها في التخصيب والبحوث ضمن الحدود السلمية؟
الجواب ببساطة: أن تشرف الوكالة الدولية للطاقة النووية على ذلك، وتحدّد ما تشاء من ألوان المراقبة والتفتيش، إلى جانب جهود مخابرات الدول العاملة صباح مساء في المراقبة وتجنيد العملاء، ما دامت إيران مستعدة لإخضاع منشآتها النووية ومراكز بحوثها للمراقبة الدائمة والتفتيش الفجائي، وما يمكن أن يوضع من شروط في حالة الإقرار بحقها في التخصيب والبحوث العلمية للأغراض السلمية، وفي الحدود المطابقة لاتفاقات الوكالة الدولية للطاقة النووية وبروتوكولاتها.
بيد أن الإدارة الأميركية (ومعها ومن ورائها إسرائيل) مصرّة على وقف التخصيب بالرغم من كل مراقبة وتفتيش وشروط. وقد راحت تجرّ معها دول كبرى أخرى ضمن الموقف إياه. والحجة هي الشك في إيران ونيّاتها.
ولكن إذا افترضنا أن إيران قبلت بوقف التخصيب وقفاً تاماً، فهل ستثق أميركا في نيّاتها بأنها لن تمضي في برنامجها سراً؟ أو في الأصحّ هل ستثق بشروط المراقبة والتفتيش التي ستمارسها الوكالة الدولية للطاقة النووية بعد ذلك؟ بالطبع لا. لأنها ستكون غير منطقية في عدم وثوقها بشروط المراقبة والتفتيش في حدود التخصيب للأغراض السلمية.
وبهذا لا يكون الشك في إنتاج القنبلة هو السبب الرئيس في الرفض القاطع الذي تبديه أميركا ضد امتلاك إيران القدرة النووية ضمن حقها المشروع الذي تقرّ لها به اتفاقات الوكالة الدولية للطاقة النووية وبروتوكولاتها. وإنما منعها من ذلك الحق، أي منعها من المعرفة والتقنيات العالية منعاً حازماً، الأمر الذي يؤكد أن أساس القرار بحق شعوبنا العربية والإسلامية لا يقتصر على السلاح النووي أو السلاح التقليدي المتقدّم، وإنما يشمل فرض التخلف وإعادة توليده في عشرات المجالات الحيوية.
وإذا صحّ ما تقدّم، فإن أميركا لن تكتفي بتراجع إيران عن التخصيب لأن حجة الشك يمكن أن تستمر وتستمر إلى أن يصبح مصير إيران كمصير العراق. فهي ضمن خريطة الفسيفساء الشرق أوسطية.
وخلاصة، ما دامت مشكلة أميركا مع التخصيب النووي الإيراني في حدود 5% قائمة على أساس الشك في النيّات، وما دام إعلان إيران وقف التخصيب لن يزيل الشك في النيّات، وما دامت إجراءات المراقبة والتفتيش في أشدّ أشكالها لا تزيل هذا الشك في حالة التخصيب في حدود الـ5%، فإن هذا الشك باق، بالضرورة، مع وقف التخصيب ومن دونه.
ومن ثم يظل الإقرار بحق إيران بالتخصيب في إطار مراقبة الوكالة الدولية للطاقة النووية وشروطها للتفتيش المفاجئ هو الحل العقلاني والعادل والممكن، والذي يوجب على الدول العربية والإسلامية أن تتبناه لتجنيب المنطقة حرباً لم تشهد لها مثيلاً من جهة، ولفتح الطريق العربي لامتلاك القدرة النووية للأغراض السلمية والعلمية والنهضوية من جهة أخرى. وهو ما يوجب، أيضاً، على الدول الكبرى الأخرى الأخذ به إذا أرادت أن تؤدي دوراً إيجابياً في احترام المواثيق الدولية وتجنـِّب العالم مغامرات التطرف الأميركي. أما مجاراته فإلى الحروب والفوضى والخراب.
* كاتب فلسطيني