غازي دحمان *
هل شكل دخول اميركا الى المنطقة السبب الرئيسي لحالة الثوران والاضطراب التي راحت تموج في المنطقة من شرقها الى غربها؟ أم ان ما يجري في المنطقة هو تطور طبيعي للصيرورة التاريخية لأزمة الكيانات السياسية في المنطقة ومجتمعاتها؟ أم ان ذلك هو جزء من حركة التطور والانحراف الخطير الذي شهده العالم منذ تسعينيات القرن الماضي، والذي تجسد في هيمنة منظومة سياسية وفكرية واحدة على كل مجريات الحياة العالمية؟.
للاجابة عن هذه الاسئلة لا بد بداية من التأكيد على حقيقة تاريخية هي ان الجغرافيا التي نعيش بين جنباتها، قد شهدت على مر التاريخ، وتحديداً في العصر الحديث، العديد من الحروب الاهلية، وبدقة أكبر، الحروب الطائفية، وعادة ما كانت هذه الحروب تنشب عند حصول متغيرات معينة، داخلية، او اقليمية، او دولية، ينتج عنها في الغالب اختلال في التوازنات القائمة او السائدة، ما يؤدي الى تهتّك الصيغ التوافقية المتواضع عليها في العيش المشترك وإدارة أمور المجتمع.
وقد كان واضحاً لدى دراسة جميع حالات الحروب الاهلية التي حصلت في المنطقة، ان للعامل الخارجي دوراً مباشراً في نشوب هذه الحروب، ويحصل ذلك عندما يسعى طرف خارجي ما الى مدّ نفوذه في المنطقة سعياً وراء تحقيق مصالح ذاتية، عادة ما تتلبّس لبوسات معينة، وتأخذ تجلّيات تتوافق في الغالب مع مزاج عالمي سائد كالنزوع نحو الحرية والديموقراطية او التطور...
وهنا لا بد من التأكيد على حقيقة مهمة ايضاً، وهي ان المساعي الخارجية كانت تلاقي على الدوام قبولاً واستحساناً داخلياً، الأمر الذي يسهل أدوار أطرافها، بل يجعلهم في أحايين كثيرة شركاء في الحدث الداخلي، ثم متورّطين في مرحلة لاحقة.
أما لماذا هذا الاستحسان والقبول من الاطراف المحليين، فذلك عائد الى حالة الظلم والقهر المزمنة في المنطقة التي كانت تجد على الدوام فئات وطوائف تتلبس بها، مقابل فئات وطوائف ظالمة وقاهرة، ما يعني ان تاريخ هذه المنطقة السياسي والاجتماعي هو تاريخ غالب ومغلوب، وان حالة السلم الاجتماعي التي عاشتها المنطقة، وإن بدت مديدة في مقابل حالات الحروب والتناحر، كانت نتيجة اختلال في توازن القوى، وقدرة فئة معينة على قمع فئة أخرى... وهكذا. وحتى في حالات التدخل التي اعتبرها التاريخ والفكر السياسي العربي «المشرقي» ايجابية، كحالة مساعدة الغرب لدول المنطقة على التخلص من الاستعمار العثماني، او المساعدة في تحقيق الاستقلالات الوطنية «كما حصل في سوريا ولبنان وغيرهما»، فقد كان التدخل لمصلحة فئة او فئات معينة، ضد هيمنة فئات وطوائف معينة كانت مستفيدة من الحالات السابقة، وكان التدخل يعني انتهاء زمن ومفاعيل فئات سائدة لمصلحة فئات طالعة، الامر الذي يعكس بدوره انتهاء زمن ومفاعيل القوى الدولية التي تدعمها وبداية جديدة لقوى دولية جديدة وطالعة.
وعلى الرغم من انتقال مجتمعات المنطقة، في مرحلة ما بعد الاستقلال، الى شكل جديد للاجتماع البشري من خلال نظام الدولة، الا ان هذا الشكل عمل على تكريس ظاهرة الغالب والمغلوب في الواقع الاجتماعي والسياسي العربي «المشرقي»، من خلال احتكار بعض الطوائف والفئات الغالبة لهذا الكيان ومؤسساته، وبالتالي احتكار قوة هذا الكيان وثرواته لمصلحتها، وحرمان الفئات والطوائف المغلوبة منها.
إذاً من الواضح تماماً وجود تقاطعات وتأثير متبادل بين الحراكين الدولي والداخلي، فيوظف احدهما الآخر لتحقيق غايات واهداف معينة، ومن الواضح ايضاً ان التغيير والانتقال من حالة الى حالة، عادة ما يتم عبر عملية جراحية صعبة تتخذ العنف والقوة وسيلتها، فهي عملية صراعية تحكمها قوانين الصراع والقوة بحيث يحصد الضعيف نتائج ضعفه ألماً وخسراناً، ويتمتع القوي بنصره عبر امتيازات السلطة والثروة، وبهذه الطريقة لا ينتهي الصراع بل يخبو منتظراً ظروفاً ومتغيرات اخرى.
وفي لحظتنا العربية الراهنة، يتجلى الصراع بأبهى صوره وأكثرها وضوحاً، بحيث بدأت تظهر على السطح فئات وطوائف، وحتى تيارات، كان قد جرى تهميشها في السنوات الـ25 الماضية على اقل تقدير، نتيجة متغيرات وظروف دولية لمصلحة جماعات وقوى وتيارات برزت في تلك الفترة ايضاً مستفيدةً من تلك المتغيرات ومفاعيلها، ولكن وبالنظر إلى طبيعة ظروف المنطقة المعقّدة، وبالنظر، كذلك، إلى اللبس الحاصل في الموقفين الاقليمي والدولي نتيجة تعقد الاوضاع الاجتماعية والسياسية في المنطقة، فان النصر غير محسوم، ولا الهزيمة مقرة، ووصلت الامور في احسن الاحوال الى حالة من توازن الرعب مع فارق بسيط هو وجود طرف يهاجم بشراسة، وطرف مدافع باستماتة.
وفي ظل حالة «الاستاتيكوا» الاجتماعية السياسية المرعبة التي باتت تخيم على الواقعين الاجتماعي والسياسي في المنطقة، استحضرت الاطراف المتناوشة الورقة الاكثر رعباً والاكثر سهولة ايضاً في الاستخدام، اي ورقة الحرب الاهلية، وبات الجميع (انظمة حاكمة، قوى حزبية، تيارات سياسية، وجماعات سياسية)، يهدد باستخدامها في مواجهة الطرف الآخر، وذلك في محاولة من كل طرف توجيه رسالة مفادها انه لن يتوانى عن الوصول الى أهدافه في حالة الأطراف الطالعة، أو الحفاظ على أوضاعه السابقة في حالة الأطراف القديمة أيضاً، حتى باللجوء الى كل الأوراق.
لقد باتت كل الكيانات السياسية في المنطقة اليوم، تمارس لعبة التعرّض للسلم الأهلي، وهي تسير بهذا الأمر على حافة الهاوية، وعلى حبل دقيق، الامر الذي خلخل، وبقوة، الأسس التي ارتكز إليها المشروع الوطني التوافقي في المنطقة، بغض النظر عن تسميات هذا المشروع، التي كانت تجد تعبيراتها في الدساتير الوطنية القائمة لكل دولة من دول المنطقة، وهنا لا بد من الاشارة الى ان هذه الوثائق «الدساتير» كانت على الدوام تتميز بالمرحلية، بمعنى انها تحدّد الأوضاع لمرحلة معينة، ومن ثم يتم تغييرها وتجاوزها عند بدء مرحلة جديدة يتحدد فيها الغالب والمغلوب.
لا شك في أن استمرار الامور في المنطقة على هذه الشاكلة سيبقي دائماً الجمر تحت الرماد، وسيبقي المنطقة وكياناتها تحت تأثير المتغيرات الدولية والاقليمية، والاهم انه سيعطل اي امكانية لتطوير مجتمعات هذه المنطقة، وامكانية بلورة طاقاتها ومواردها لتحقيق اهدافها في التنمية والتقدم.
ولا يمكن الخروج من هذا الوضع المأزوم الا من خلال عقد اجتماعي جديد، موضوعي ومنطقي، بحيث يحفظ حقوق جميع الاطراف كمواطنين في دولة عصرية، والتخلّص نهائياً من عقلية الوصاية والغالب والمغلوب، المعادلة التي طالما استُخدمت كأهم نظريات الحكم في المنطقة.
* كاتب سوري