وليد شرارة
موقف البابا بنديكتوس السادس عشر من الإسلام، الذي عبّر عنه خلال محاضرته الأخيرة في ألمانيا، لم يدهش المطلعين على السجالات والصراعات الدائرة منذ زمن طويل داخل الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية والذي يتركز على فهم المسيحية ورسالتها في هذا العالم. ومن الممكن القول إن الغضب الذي أثارته هذه التصريحات داخل الكنيسة الكاثوليكية لا يقل حدة عن غضب جموع المسلمين التي خرجت إلى الشوارع للاحتجاج عليها وإن لم يُعبّر عنه بالطريقة نفسها. عكس موقف البابا وجهة نظر أكثر التيارات محافظة داخل الكنيسة وهو تيار «الأوبوس ديي» (Opus Dei) الذي أسسه الأب إسكريفا دو بالاغوير في إسبانيا عام 1928 كتنظيم داخل الكنيسة للدفاع عن الملكية و«الأخلاق المسيحية» ومواجهة صعود اليسار والحركة الشيوعية في هذا البلد. تحالف هذا التنظيم مع ديكتاتورية فرانكو ووسع دائرة نشاطه خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي الى أميركا اللاتينية حيث وقف بقوة الى جانب الأنظمة العسكرية، كنظام بينوشيه في التشيلي، بحجة مقاومة الشيوعية. مع مرور الأيام، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، تحوّل التنظيم الحديدي الى تيار فكري ــ سياسي أقل مركزية وظهرت داخله بعض التباينات. كان البابا يوحنا بولس الثاني قريباً من هذا التنظيم وقد قام بتطويب مؤسسه، دو بالاغوير، قديساً. لكنه، ومنذ انهيار النظم الاشتراكية، اتخذ جملة مواقف تختلف بوضوح عن تلك التي يدافع عنها التيار المذكور. فقد عارض الحرب الدولية الأولى على العراق عام 1991، ورفض نظرية صراع الحضارات منذ أن طرحت، وزار السودان ولبنان ليؤكد أهمية التعايش والتعاون بين المسلمين والمسيحيين، ووجّه نقداً لاذعاً في أكثر من مناسبة لليبرالية الوحشية التي اجتاحت العالم منذ بداية التسعينيات. وقد دان بوضوح الغزو الأميركي ــ البريطاني للعراق عام 2003 وأدت الديبلوماسية الفاتيكانية دوراً مهماً في محاولة ثني دول كاثوليكية كإسبانيا وايطاليا عن المشاركة في هذا الغزو لكن جهودها لم تكلل بالنجاح. ساهم هذا الموقف في حرمان الغزو من مسوغات دينية وأخلاقية ما منع من تصويره صراعاً بين الاسلام والمسيحية. سمحت هذه المواقف للبابا يوحنا بولس الثاني بأن يكسب تأييداً نقدياً من تيارات أخرى داخل الكنيسة تطرح فهماًَ مختلفاً للمسيحية ودورها السياسي والاجتماعي مع ما يترتب على ذلك من عداء جذري للرأسمالية ولسياسات الحرب والهيمنة. من بين هذه التيارات تيار لاهوت التحرير الذي أشاد اثنان من رموزه، غوستافو غوتييريز وفرانز هينكلهامرت بتوجهات الفاتيكان الجديدة مع بداية التسعينيات.
قبل وفاة البابا يوحنا بولس الثاني، خصصت دورية «فورين بوليسي» الأميركية مقالاً مهماً للبحث في المواصفات المطلوبة لخليفته. وهي رأت أن غالبية الكاثوليك في العالم تفضل رأساً للكنيسة يعمل على معارضة السياسات النيوليبرالية ويسعى للتعاون مع عالم الاسلام، وقدرت أن هذه المواصفات متوافرة على الأغلب عند مرشحين من أميركا اللاتينية. موازين القوى داخل الفاتيكان وتدخلات سياسية من الولايات المتحدة وبعض الأوساط الأوروبية المؤيدة لها أعطت نتيجة مخيبة لتطلعات غالبية الكاثوليك. البابا بنديكتوس السادس عشر مدرك أن شعبيته محدودة بالمقارنة مع أسلافه وكذلك قدرته على التأثير. هذا ما يفسر على الأغلب لجوءه، في سياق عالمي سمته الأساسية الفوضى المتزايدة وتصاعد حدة الصراعات الطائفية، الى تكتيك الاستفزاز المتعمد للمسلمين لإشاعة مناخات احتقان بينهم وبين المسيحيين. مثل هذه المناخات قد تساعده على نشر قناعاته المتشددة وتوسيع قاعدة مؤيديه المحدودة. هذه المناخات ملائمة أيضاً لاستراتيجية المحافظين الجدد التي خسرت الكثير من صدقيتها في السنتين الأخيرتين. لهذه الأسباب، قد يكون أفضل رد على هذا الاستفزاز المتعمد قمة روحية عالمية اسلامية ــ مسيحية تؤكد وحدة المقاصد بين الرسالتين السماويتين.