زياد نجار *
تشن قوى الرابع عشر من شباط حملة مكثفة لاستعادة المبادرة السياسية، وهي حملة حققت ولا شك انتصارات «إعلامية» متعددة، باعتبار ان هذه القوى تتمتع بإمكانيات إعلامية متميزة إلا أن أكثر الأطراف تفاعلاً مع البهرجات الإعلامية لقوى 14 شباط هم قوى 14 شباط نفسها.
يكفي أن تردد مؤسسات الأكثرية الإعلامية شائعات من نوع انهيار شعبية التيار الوطني الحر حتى تتحول هذه الشائعات إلى حقيقة مؤكدة على ألسن المتحدثين باسم هذه الأكثرية.
لكن هذه القناعة اليقينية في تصريحات قوى 14 شباط تبدو على تناقض مع سلوك هذه القوى تجاه الانعكاسات التطبيقية لهذه القــــناعة.
مثلاً، بينما تسارع إلى نعي مفاعيل الانتخابات الأخيرة لجهة التصويت الشعبي الكثيف لمصلحة تيار العماد ميشال عون تبدو شديدة التحفظ على إعادة امتحان شعبية هذا التيار من خلال انتخابات مبكرة، علماً أنه لو صحت «التأكيدات» للانهيار الشعبي للتيار الوطني الحر لأصبحت الانتخابات مدخلاً وحيداً لحل مشكلات هذه القوى دفعة واحدة.
أولاً: ستسمح الانتخابات بتحجيم العماد عون وبالتالي إراحة الجناح المسيحي في هذه القوى من هاجس الانكشاف الشعبي تجاه حركته. هذا التحجيم لن يسمح فقط بإعادة إنعاش الجناح المسيحي لـ 14 شباط وإنما سيريح الحكومة من عبء اللاتوازن الطائفي في تركيبتها الناتج من استبعاد الطرف المسيحي الأقوى عن التمثيل فيها.
ثانياً ستسمح هذه الانتخابات بإعادة إنتاج أكثرية كاسحة (تتعدى الثلثين فيما لو صحت «التأكيدات») وبالتالي ستسمح لهذه القوى بإحداث التعديل الدستوري المطلوب للتخلص من الرئيس لحود والإتيان برئيس يتماشى مع أهواء القوتين الفاعلتين في 14 شباط، يعني ذلك إفساح المجال أمام انتقال رئاسة الحكومة إلى رئيس الظل الفعلي. في أبسط الأحوال ستتخلص الأكثرية من سمة ملازمة لها هي أنها أكثرية وليدة لقانون غازي كنعان، الذي وإن كانت قد جمعته علاقات مميزة بهذه القوى، إلا أنه يبقى الرمز لحقبة النظام الأمني اللبناني ــ السوري (الذي هو وليد إدارته الشخصية للملف الأمني اللبناني) وهذه حقبة يكثر من شتمها رموز الأكثرية.
ثالثاً ستؤدي هذه الانتخابات إلى تجريد الطرف الشيعي من سنده المسيحي القوي وبالتالي ستؤدي إلى عزل حزب الله وتعزز من إمكانية استقطاب الرئيس بري لفك تحالفه مع الحزب (كما تشتهي قوى 14 شباط)، وهنا بيت القصيد حيث إن ذلك سيعني ببساطة إطباقاً سياسياً محكماً على حزب الله أو أقله تحجيم تأثير الكتلة الشيعية بوصفها بيئة من لون طائفي صرف خارجة عن الانتماء الوطني اللبناني (كما تشتهي أيضاً قوى 14 شباط). في ظل هذا السيناريو تصبح المطالبات الخيالية لـ 14 شباط بإقالة لحود وتسليم سلاح حزب الله واقعية وممكنة جداً، لا بل إنه سيكون بمقدورها الانتقال إلى مرحلة فتح جبهة علنية مشتركة مع الولايات المتحدة وفرنسا لإسقاط النظام السوري.
ليس هذا فقط ما يكشف التناقض بين القول والسلوك لدى 14 شباط، فقد قدمت الظروف السابقة واللاحقة لبيان مجلس المطارنة الموارنة وطريقة تعامل هذه القوى مع هذا الحدث كما لو أنه الغيث المنشود، نموذجاً آخر لهذا التضارب. فلو كانت هذه القوى تأخذ على محمل الجد مزاعمها عن انهيار شعبية عون وانتقال المسيحيين إلى جبهة 14 شباط لما كان هناك من ضرورة لإقحام البطريرك الماروني بوصفه الشريك الثالث غير المعلن في حلف الأكثرية إلى جانب سعد الحريري ووليد جنبلاط. لو كان أفرقاء 14 شباط المسيحيون في أحسن أحوالهم ــ كما يؤكد سمير جعجع ــ بعد أن انتقل الشارع المسيحي إلى صفهم لما كان من ضرورة للاستنجاد بالبطريرك الماروني وإحلاله بلا استئذان مكان جعجع في صورة الأيادي المشبوكة. الواقع أن القول بأن البطريرك الماروني هو الركن المسيحي في ثلاثية 14 شباط (كما يردد محللو جريدة المستقبل) هو بشكل من الأشكال إعلان فشل للشركاء المسيحيين في الأكثرية في الوقت نفسه الذي يعلن فيه هؤلاء انتصارهم في شارعهم. إنه أيضاً نوع من المكر السياسي الذي يحاول استخدام البطريرك الماروني لمواجهة عون (كما لا يشتهي البطريرك)، أي إنه جر للمسيحيين إلى وضع تخبط داخلي تماماً كما كانت الحقبة السورية تستعير حكمة واعتدال البطريرك صفير في الظروف الحرجة لمواجهة الجناح السياسي للمسيحيين وعزله (كما لم يكن يشتهي البطريرك). إن في ذلك استغلالاً ذكياً لرمزية البطريرك التي يصعب على أي مسيحي نكرانها ولكن هذه الرمزية الدينية تمنع البطريرك بالمقابل من الانغماس في تفاصيل العمل اليومي للعبة السياسية. إذاً حجم البطريرك المعنوي يجعله رمزاً أساسياً وبالتالي سلاح فعال ولكنه في الوقت نفسه يضعه خارج إطار الجني السياسي فلا يمكنه أن يكون عضواً رسمياً معلناً في تحالف سياسي ولا يمكنه أن يتمثل بحجم سياسي مما يعني أنه سيكون من السهل التفلت من الثمن السياسي لحلف وهمي كهذا والتعويض عنه ببعض الترضيات، أو حتى التفلت الكلي من هذا الحلف كما سبق أن حدث عند إقرار قانون الانتخابات لعام 2005. في كل ذلك الكثير من المنطق الوجيه لكن هذه المقاربات لا تعدو كونها تنكر واقعاً سياسياً استجد بعد الخروج السوري من لبنان وانتخابات 2005 وهو أنه باتت للمسيحيين قيادة سياسية أساسية فاعلة وأن لهذه القيادة وزنها الذي لا يمكن إنكاره حتى من السلطة الروحية المسيحية العليا تماماً كما لا يمكن التشكيك في هذه القيادة الروحية، وهذا الواقع لا يمكن تغييره أو تعديله إلا من خلال انتخابات جديدة. الحقيقة التي لا يقولها رموز 14 شباط أن معارضتهم الانتخابات المبكرة ناتجة من قناعة يقينية بأن الانتخابات ستؤدي إلى تكريس القيادة السياسية للمسيحيين وعلى الأرجح رفع مستوى تمثيلها (كما لا تشتهي أيضاً قوى 14 شباط).
* صحافي لبناني - كندا