عبد الإله بلقزيز *
منذ توقف القتال في الرابع عشر من آب الماضي، بل منذ كان مستعداً قبل هذا التاريخ، ولبنان يشهد ضرباً من السجال السياسي من النوع الذي لا يطرح أسئلة بقدر ما يلقي اتهامات. السؤال بطبيعته إشكالي، فلا يقوم سؤال من دون اسْتِشْكال لموضوع يتحول فيه هذا الى مادة للتفكير. حين يُصاغ سؤال في شكل اتهامي، بَطُل عندها ان يكون سؤالاً لأنه ــ حينها ــ يحمل جوابه، أو قل يصمِّم نفسه على نحوٍ يستدعي جواباً في تضاعيفه يُستدعى كتحصيل حاصل جاهزاً ناجزاً مُسْتَبْدهاً.
السؤال الصحيح يكون، بطبيعته، سؤالاً محايداً، غير منحاز، أو قل سؤالاً موضوعياً. حياديّته تحفظ مساحة واسعة أمام الفرضيات جميعها من دون انتقائية إيديولوجية لهذه أو لتلك. وعندي أن هذا المعنى الدقيق لمفهوم السؤال هو مما لم نعثر على أشباهه ونظائره في «الأسئلة» التي يدور حولها السجال السياسي في لبنان هذه الأيام. الأعم الأغلب من هذه «الأسئلة» ــ هو ــ كناية عن أجوبة جاهزة تعرض نفسها في صورة أسئلة! لذلك تبدو، بَداءةً، شديدة الانحياز وشديدة الزيغ عن هاجس التفكير في المعضلات التي تفرض نفسها على الاجتماع السياسي اللبناني المعاصر، مثلما تبدو ــ ثانياً ــ معنيّة بحشر الخصم وقدحه والنكير عليه بدلاً من البحث عن جواب لإعضال سياسي!
ثمة فارق، مثلاً، بين السؤال: «لماذا اندلعت الحرب؟» والسؤال: «لماذا جُرّ لبنان الى الحرب؟». في الحالة الأولى يبدو السؤال سؤالاً موضوعياً يحتمل أكثر من إجابة. أما في الثانية، فيبدو «سؤالاً» اتهامياً مسوقاً الى جواب واحد مُتَضَمَّنٍ في السؤال على مثال تضمين الأصل للفرع في القياس الفقهي الاسلامي وتضمين المقدمتين المنطقيتين المعلومتين للنتيجة في القياس المنطقي الصوري(الأرسطي)! ومن المسلَّم به منطقياً أن الأسئلة غير الإشكالية وغير الموضوعية أو المنحازة (ولنسمِّها الأسئلة الأيديولوجية في مقابل الأسئلة العلمية)، أسئلة قابلة للدحض والتفنيد بأسئلة مقابلة ترد صاع اتهامها صاعين. هاكم أمثلة من السجال السياسي اللبناني لأسئلة أيديولوجيةٍ منحازة قابلة للرد عليها بأسئلة مقابلة من الموقع السياسي المقابل:
يوجِّه فريق سياسي لبناني اتهاماً لفريق سياسي آخر مخالف في شكل سؤال حين يتساءل: «من المسؤول عن جر لبنان الى حرب لم يكن يرغب فيها وعن تدفيعه خسائر بشرية واقتصادية كان في غنى عنها؟». يرد الفريق المعني بالجواب عن السؤال/الاتهام بسؤال مختلف مقابل: «من المسؤول عن ردع اسرائيل وعن تحقيق انتصار لبنان على العدوان وإسقاط أهدافه السياسية؟».
تتوالى الأسئلة على المنوال نفسه. يسأل الفريق الأول: «ألم يخض «حزب الله» الحرب بالوكالة عن ايران وسوريا»، يرد الثاني: «ألم تخض اسرائيل الحرب بالوكالة عن الولايات المتحدة الأميركية والأطراف الدولية والإقليمية والمحلية الشريكة في صناعة القرار 1559؟». يسأل الأول: «ألم تكن الحرب مصروفة لأداء وظيفة رفع الضغط الدولي عن البرنامج النووي الايراني ولمنع تأليف محكمة دولية في جريمة اغتيال الرئيس الحريري؟»، يرد الثاني: «ألم تكن الحرب مصروفة لإخراج السياسة الأميركية من مأزقها في العراق وأفغانستان ومن أجل تحقيق انتصار ما يتعزّز به موقع جورج بوش والجمهوريين في انتخابات الكونغرس النصفية؟». ثم يتساءل الأول: «الى متى يبقى لبنان ساحة مفتوحة لحسابات سورية وايرانية؟»، فيرد الثاني: «الى متى يبقى لبنان ساحة مفتوحة أمام الحسابات الأميركية والاسرائيلية والفرنسية و…؟».
وأخيراً ــ ليس آخراً ــ يسأل الأول: «هل يملك «حزب الله» قراره السياسي والوطني إزاء رُعاته الإقليميين؟»، فيرد الثاني متسائلاً: «هل تملك قوى الأكثرية النيابية الراهنة قرارها السياسي والوطني إزاء رُعاتها الدوليين والإقليميين وسفارات دول الوصاية الجديدة على لبنان؟»...
تلك عيِّنة من سجال سياسي يدور في لبنان هذا اليوم بين فريقين «يتحاوران» من خلال «أسئلة» يلقيها فريق سياسي على خصم لا تعوزه القدرة على ردها بأسئلة مقابلة. قد يتقدم «الحوار» خطوة أبعد من حدود الاتهام فيتبلور أفكاراً أو شعارات ترسم «رؤية» أو «تصوراً» لِما ينبغي ان يستقر عليه الحل السياسي للأزمة الراهنة في لبنان. نكتشف سريعاً ان الأفكار تلك لا تشكل مقدمة مناسبة لإطلاق حوار سياسي عميق وصادق في البلد لأنها تُغلق على نفسها منذ البداية وتُحكم الإغلاق، فتدفع غيرها الى مقابلتها على نحو حَدِّي بما يدحضها أو على الأقل بما يذهب في التمايز عنها الى الحد النقيض. لنلقِ نظرة سريعة على الموضوعات السياسية التي يسوقها فريق لبناني عنواناً لحل سياسي يرتئيه، وعلى الموضوعات النقيض التي يرد بها فريق آخر:
لا بد من نزع سلاح «حزب الله» شرطاً ومدخلاً لبناء وحدة وطنية لبنانية، يقول قسم من السياسيين اللبنانيين، يردّ الثاني: لا بد من إجماع على سلاح المقاومة لاستيلاد وحدة وطنية حقيقية في وجه العدو. يستطرد الأول: لا سلاح شرعياً إلا سلاح الدولة ولا سلطة شرعية إلا سلطة الدولة تبسطها على أراضيها كافة، يقابله الثاني: لا بد للدولة من أن تكون قادرة قوية حتى يُسلِّم لها المجتمع بالحق الحصري في الدفاع عن أمنه وحماية سيادته. يعيد الأول التأكيد أن لبنان يملك ان يحفظ أمنه فقط إن أقفل جبهة جنوب لبنان في الصراع مع إسرائيل أُسوة بجبهة الجولان المقفلة منذ ثلث قرن، يفحمه الثاني: أمن لبنان رهن ببناء قوة ردع عسكرية تقيه من خطر العدوان الاسرائيلي، وإقفال جبهة الجولان ليس مثالاً نموذجياً للبنان ليحفظ نفسه من العدوان. ثم لا يلبث الفريق الأول ان يذكِّر بأن استكمال تطبيق «اتفاق الطائف» وتكريسه مرجعيةً للنظام السياسي في لبنان، يقتضي في جملة ما يقتضي نزع سلاح المقاومة واحتكار الدولة للسلاح، فيعيد الثاني التذكير بأن تنفيذ «الطائف يبدأ من نقطة معلومة: تأليف حكومة اتحاد وطني تكرّ بعد تأليفها سبْحة فقرات الاتفاق…
هذه لقطة سريعة من المشهد السياسي اللبناني هذه الأيام. هل نحن أمام ما سمّاه فقهاء المالكية «تكافؤ الدليلين»؟ لا، نحن أمام سجال يبحث عن مخرج له من النفق، أو بالأحرى يحتاج الى من يخرجه من ذلك النفق: من المُضاربة والنقار الى المناظرة والحوار.
ولكن لا بد من ان نكون عادلين في توزيع المسؤوليات: على من يطرح على خصمه سؤالاً أن يتحرّى في أمر سؤاله، وفي ما اذا كان يروم منه حواراً أو شجاراً! فالفارق كبير بين أسئلة ما قبل الحرب وأسئلة ما بعد الحرب.
* أستاذ الفلسفة ـ جامعة الحسن الثاني ـ المغرب