عمر كوش *
لا شك في أن الولايات المتحدة الأميركية قد تغيّرت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، لكن التغير الأكبر والدراماتيكي أحدثته الولايات المتحدة الأميركية في العالم، وخاصة في المنطقة العربية والإسلامية، حيث اتّبعت استراتيجية دمّرت العديد من الكيانات الوطنية، وأسهمت في تنمية ونشر ظاهرة الإرهاب التي أعلنت أميركا الحرب عليه دون أن تحدده وتميزه أو تنظر في أسبابه، والأخطر من ذلك كله هو سعيها إلى تحويل الصراع إلى ميدان الثقافة والدين وسائر القيم الرمزية.
وحاولت الإدارة الأميركية فرض سياسة «إما أن تكونوا معنا أو تكونوا مع الإرهابيين» بعد أحداث 11/9، ووقفت معظم حكومات دول العالم خلفها لمكافحة الإرهاب، إلا أن ذلك الإجماع تبخر بعد مرور خمس سنوات، وأضحت السياسة الخارجية الأميركية تواجه صعوبات على كل الجبهات، بسبب غطرستها وتفردها في التعامل مع المشاكل والأزمات، الأمر الذي أفقدها دعم العديد من حلفائها، بعد سلسلة من الأعمال المتسرعة والخاطئة والعدائية.
ونهضت الاستراتيجية الأميركية على مبدأ ترسيخ الهيمنة، حيث الغاية أسمى من الهدف وفق هذه الاستراتيجية، مع أن الهدف تمحور بالمعنى الامبراطوري على استمرار القيادة العالمية للولايات المتحدة من خلال السيطرة على الوضع العالمي، واحتواء أية قوى تحاول الخروج على القيادة. ووجد الخطاب السياسي الأميركي ضالّته في الإسلام بوصفه العدو الذي تنشر على حباله كل خطايا وإخفاقات السياسة الأميركية، حيث عجزت عن استحضار الحرب الصليبية إلى القرن الحادي والعشرين، وفشلت قوتها العسكرية في تحقيق الأهداف الاستراتيجية، فلجأت إلى الحرب الفكرية كي تنعت كل من يعارضها بالتطرف والإرهاب. وفي ظل الحرب الغامضة، التي خاضتها الولايات المتحدة الأميركية خلال السنوات الخمس المنصرمة، حدث استقطاب مأسوي ورهيب ما بين أصوليتين: أصولية إنجيلية جديدة يتزعمها الرئيس بوش وزمرة المحافظين الجدد وحلفاؤهم، وأصولية إسلامية جهادية يتزعمها تنظيم القاعدة وحلفاؤه. وفي سياق محاولة الأصولية الأولى الهيمنة على العالم وفرض نموذجها التغييري الراديكالي، ومحاولات الأصولية الثانية عولمة الجهاد وتحويله إلى عنف ضد الولايات المتحدة والدول الغربية، فإن الخسارة الكبرى لحقت بالديموقراطيين والليبراليين الوطنيين في البلدان العربية، فتضررت الحركة الديموقراطية بشكل خاص في هذه البلدان التي تدّعي الولايات المتحدة سعيها لنشر الديموقراطية فيها، فيما تلقّت الأنظمة الاستبدادية العربية دعماً كبيراً لم تكن تتوقعه، فعملت على إسكات الأصوات المعارضة، وإحكام قبضتها الأمنية، والإمعان في التحكم والسيطرة على رقاب العباد وثروات البلاد. وعليه فإن إحدى النتائج الكارثية لهذا الاستقطاب هو تراجع العمل السلمي الديموقراطي الساعي نحو حياة أفضل للأفراد والمجتمعات العربية.
وشهد العالم مرحلة من صعود اللامعنى، تجسدت في الفوضى الشاملة المدمرة التي تسببت بها السياسات الأميركية وعصفت بالمنطقة العربية بشكل خاص، حيث يبيّن واقع الحال أن الولايات المتحدة الأميركية اتّبعت سياسات طائشة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، إذ شنت الحروب التدميرية في العديد من البلدان العربية والإسلامية، ولم تخلّف وراءها سوى بلدان مدمّرة، وفرقاء حرب، وتربة صالحة لتكاثر مختلف الأصوليات والعصبيّات. ففي أفغانستان لم تنجح الولايات المتحدة في بناء دولة تستطيع تسيير أمورها لوحدها، فيما تشهد حركة «طالبان» عودة قوية على الصعيدين العسكري والسياسي. وفشل الاحتلال الأميركي في ضبط الوضع العراقي، إذ لم ينجح في تأسيس دولة لمجموع العراقيين، بعد أن حوّل العراق إلى بلد مدمر، ومرتع لميليشيات إرهابية، وفرق موت، وحرب أهلية مذهبية، يُقتل فيها الإنسان على الهوية، وتزهق أرواح الآلاف من العراقيين. وفي فلسطين، لم ينجح الاحتلال الإسرائيلي في فرض شروطه على الفلسطينيين، بل جاءت التجربة الديموقراطية لتعلن بشكل واضح أن خيار الشعب الفلسطيني مخالف تماماً لما يتصوّره الساسة الأميركيون والإسرائيليون. إذاً، لم تشهد منطقة الشرق الأوسط أوضاعاً مثل هذه الأوضاع التي عملت على تنميتها وتغذيتها السياسات الأميركية في المنطقة، حيث الفوضى تضرب في كل مكان، والعنف وصل إلى درجات غير مسبوقة، وبزرت ممانعات عديدة عبّرت عن ذاتها في مقاومات شتى أربكت الاحتلال في العراق وفي فلسطين، ووجهت إليه ضربات قاسية. وجاءت الحرب على لبنان لتؤكد اكتمال فشل المشاريع الأميركية في المنطقة بعد الحادي عشر من أيلول، وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح بقوة في هذا المجال هو: أليس الأجدى بالإدارة الأميركية سلوك طريق يغيّر نهجها المتّبع، والركون إلى استراتيجية جديدة تقطع مع النهج السابق، وتتعامل مع قضايا المنطقة، وفي أساسها القضية الفلسطينية، بموضوعية، دون تحيّز وغطرسة واستعلاء؟ فقد تغيّر العالم، وبات مختلفاً عما كان عليه بعيد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، وقدمت الحرب على لبنان فرصة لإعادة النظر في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. لكن يبدو أن الإدارة الأميركية وجدت في الحرب على لبنان فرصة لحقيق مخططها بشأن الشرق الأوسط الجديد الرامي إلى القضاء على قوى المقاومة والممانعة، إلا أنها تعرضت لصفعة جديدة.لقد وصلت الاستراتيجية الأميركية في المنطقة العربية، التي وضعها المحافظون الجدد، إلى طريق مسدود، بعد أن أشبعت بسياسة الانفراد وثنائيات ميتافيزيقا القوة، ولم تعد تلقى قبولاً داخل أوساط الشعب الأميركي وخارجه، بعد أن انكشفت جميع وسائلها وأهدافها وتكتيكاتها، وبات دافع الضرائب الأميركي يتساءل عن جدوى سياسات القوة والحروب الوقائية والاستباقية، والأهم من ذلك هو أن الإدارة الأميركية لم تعد قادرة على الاستمرار في استغلال مخاوف الأميركيين وتجييرها خدمة لحروبها التي لم توفر الحدّ الأدنى من الأمن والاستقرار في العالم. إضافة إلى تغيّر المزاج الدولي وعدم ركون الدول الكبرى في العالم إلى الصمت إزاء النهج الأميركي الذي لا يحترم مصالح الدول، ولا حقوقها ولا دورها في عالم اليوم. إن مكمن الخطأ في السياسة الأميركية هو إهمالها القضية الفلسطينية، وتماهيها مع الأجندة الإسرائيلية، الأمر الذي يفضي إلى عدم معالجة جوهر النزاعات والصراعات في المنطقة، وجلب المزيد من عدم الأمن وزعزعة الاستقرار وإفشال أي توجه لإحلال سلام شامل في المنطقة. وعليه ستبقى المنطقة برمّتها مضطربة وقابلة للاشتعال مجدداً في أية لحظة.
*كاتب سوري