ليلى نقولا الرحباني*
على أثر انهيار الثنائية القطبية، وبالتالي انتهاء الصراع الإيديولوجي بين الشرق والغرب، ظهرت على ساحة منظّري العلاقات الدولية أفكار عدة، منها ما يُنبئ بالفوضى، ومنها ما يبشّر بنهاية التاريخ. ثم ما لبث أن أطل علينا صموئيل هانتنغتون عام 1993 بمقالته الشهيرة «صراع الحضارات؟»، التي يرى فيها أن الحروب المقبلة لن تكون إيديولوجية ولا اقتصادية بل ستكون ثقافية. مضيفاً أن الصراعات الكبرى التي ستطبع المستقبل هي صراعات بين أمم وجماعات تنتمي الى حضارات وأديان مختلفة. وهو يرى أن صراع الحضارات هذا سيكون على مستويين:
ــ المستوى الأضيق حيث ستكون الصراعات الأعنف على الإطلاق بين مجموعات دينية متباينة تتجاور على خطوط التماس بين الحضارات المختلفة، للسيطرة على الأقاليم أو بعضها على بعض.
ــ أما على المستوى الأوسع، فإن دولاً من حضارات مختلفة سوف تتنافس للحصول على المقدرات الاقتصادية والعسكرية، وللسيطرة والهيمنة على المؤسسات الدولية، وبشكل أقوى لفرض قيمها الدينية والسياسية على الآخرين. ومن هنا ينطلق الكاتب ليحدد خطوط التوتر المستقبلية التي ستكون الحدود الفاصلة بين الحضارات، مؤكداً أن حروب المستقبل ستكون بين المسيحية والإسلام، بين الإسلام والهندوس، ومع الحضارة الكونفوشيوسية الخ... وبشكل أعنف وأكثر دموية مما كانت عليه في أي وقت من تاريخ البشرية.(1) والآن بعد 13 عاماً على هذه المقولات، وبعد بروز التطرف الديني على أشدّه بعد 11 أيلول، مرّ على العالم هذه السنة حدثان عالميان بارزان، لا بد من التوقف عندهما للتساؤل: هل كانت نبوءة هانتغنتون محقة؟ هل نتجه فعلاً وبسرعة نحو حرب من نوع جديد،أي صراع ومواجهة بين الحضارات أو بالأحرى بين الأديان؟
أما الحدثان اللذان ألقيا بتداعياتهما على الساحة العالمية، واللذان سنطرحهما على سبيل المثال لا الحصر، فهما الجدل الدائر حالياً بشأن الاقتباس الذي استعمله «البابا بنديكتوس السادس عشر» في محاضرته أخيراً، وردود الفعل الإسلامية المستنكرة والمطالبة بالاعتذار، وقبله في مطلع السنة الجارية، أزمة نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد، والتي أثارت موجة من الغضب والاستنكار في العالمين العربي والإسلامي، وفي أوساط المسلمين في العالم أجمع. إذا عدنا إلى الضجة التي أثارتها الرسوم المسيئة للنبي، نرى تبايناً في ردود الفعل الغربية والأوروبية على هذا الحدث، حيث رأى البعض أن حرية التعبير وحرية الصحافة يجب أن تصانا، وبالتالي طالبوا بإعادة نشر هذه الرسوم الكاريكاتورية. لكن بالمقابل وفي الأوساط الغربية أيضاً، استهجن البعض الآخر المسّ بالمقدسات الدينية، معتبراً أن ما حصل في إطار ردود الفعل هذه ليس سوى نتيجة تراكم العداء للغرب، بسبب سياسته المزدوجة المعايير، وكثرة الأخطاء التي ترتكب في أفغانستان والعراق وفلسطين...
ومع رفضنا المطلق المسّ بالمقدسات، واحترامنا الشديد لجميع الأديان والمذاهب، لا يمكننا تجاهل الاستغلال والتوظيف لهذه الاحداث، والتحريض الذي ظهر من خلال الدعوات التي اُطلقت إلى إعادة نشر الرسوم وما رافقها من إطلاق تهم الارهاب على المسلمين كافة. وفي الوقت نفسه من خلال الرد المفرط والمبالغ به، الذي بدا جلياً في التظاهرات المستنكرة التي تجاوزت التعبير عن الغضب، والتي بدا في كثير من الأحيان أنها عمل منظّم يهدف من خلاله البعض الى توجيه رسائل سياسية معينة، مستغلّين الحماسة والإيمان الشعبيين اللذين تحوّلا إلى تعصب طائفي ومذهبي شديد، ما انفك يقوى ويتجذر بالتحريض الذي مارسه الزعماء السياسيون والدينيون( من الجهتين طبعاً). وهنا مكمن الخطر الذي نتمنى أن يعي القادة المسيحيون والمسلمون عواقبه الوخيمة قبل فوات الأوان.
على القادة الروحيين والزعماء المسيحيين، التنبه جيداً الى أن استمرار التشنج الطائفي والمذهبي، كالذي يحصل، سوف يُلقي بظلاله على الوجود المسيحي في منطقة الشرق الاوسط والمنطقة ككل. إن الهجرة المسيحية تزايدت خلال العقدين الأخيرين، إما بسبب الوضع الاقتصادي المتردي أو بسبب سياسة التخويف والتيئيس التي اعتمدتها، وما زالت، بعض الزعامات الدينية والسياسية المسيحية. وقد يستفيق المسيحيون يوماً فلا يجدون أثراً لهم في المنطقة.
وقد أدرك البابا يوحنا بولس الثاني (رحمه الله) تأثير الصراعات الطائفية في العالم العربي على مستقبل المسيحيين في المنطقة، فدعا في «الإرشاد الرسولي: رجاء جديد للبنان» المسيحيين اللبنانيين إلى بناء مستقبل مشترك مع المسلمين، وإلى التضامن مع العالم العربي، فقال: «إن مصيراً واحداً يربط المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة، وهم مدعوون إلى أن يبنوا معاً مستقبل عيش مشترك وتعاون، يهدف الى تطوير شعوبهم تطويراً إنسانياً وأخلاقياً. وعلاوة على ذلك، قد يساعد الحوار والتعاون بين مسيحيي لبنان ومسلميه، على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان أخرى».
بالمقابل لن يكون مسلمو المنطقة بمنأى عن هذه التداعيات، وعن النتائج السلبية للتحريض الطائفي، حيث ستغرق المنطقة العربية في الفوضى والاحتلال، وسينتشر الإرهاب ويؤدي الى مزيد من التخلف والفقر. إن ما يجري في العراق اليوم من محاولات إشعال فتنة مذهبية بين السنّة والشيعة، وما يُعلن من سيناريوهات وخرائط لـ«الشرق الأوسط الجديد» يعيدنا بالذكرى الى البلقان، ويفيدنا بما ستكون عليه حال الدول العربية، وما هية الحروب الطائفية والمذهبية التي يبشرنا بها المستقبل، إذ يبدو أننا نتجه بسرعة إلى تحقيق مقولة هانتنغتون «صراع الحضارات». إن القيّمين على هذه المجموعات، سواء الطائفية أو السياسية، يسهّلون تنفيذ مخططات تُرسم للمنطقة، منها التقسيمية على أسس مذهبية وإثنية، ومنها التي تبشّر بالفوضى البنّاءة، وغيرها مما لم يكشف بعد، وهي إذا تحققت فستؤدي الى عواقب وخيمة جداً.
ومن المؤكد، أن الغرب الذي يساهم في تغذية هذه الاحقاد الطائفية وفي تأجيج التعصب المذهبي، لن يكون بمنأى عن تداعياتها. فالحروب الطائفية التي يمكن أن تشتعل في منطقة الشرق الأوسط، سوف تصل شرارتها الى القارة الاوروبية أولاً، سواء بسبب التجاور الجغرافي مع منطقة المتوسط، أو لوجود جاليات مسلمة كبيرة في معظم دول الاتحاد، ومن ثم فقد تمتد لتشمل قارات أخرى. انطلاقاً من المحاذير والأخطار التي يُنبئ بها هذا الشحن الطائفي، سواء في لبنان أو في العالم، المطلوب اليوم لغة جديدة للتواصل بين الأديان عامة وبين الغرب والمسلمين بصورة خاصة، انطلاقاً من مبدأ مفاده: «ليس كل المسلمين إرهابيين، وبالـــتالي ليس كل الغربـــيين داعمين للسياسة الاسرائيلية».
المطلوب من زعماء الطوائف «السياسيين والدينيين» تجنب التجييش الطائفي والمذهبي، وتغليب لغة العقل والحوار والتسامح، وإلا وقع العالم أجمع في محظور حرب دينية و«صراع حضارات» عالمي، قد يُعرف كيف يبدأ، ولكن لن يُعرف بالتأكيد الى أين سيمتدّ، وكيف ومتى سينتهي.
*باحثة في القضايا الاستراتيجية