إلهام منصور *
هناك دور استجد على الساحة اللبنانية بعد العدوان الصهيوني الاخير على لبنان، وهو دور بدأ صامتاً يترقب النتائج في الثاني عشر من تموز، وأخذ يتحول الى ناطق مع العدوان الى أن اصبح هادراً سنفونياً مبرمجاً عند اعلان وقف الاعمال الحربية في الرابع عشر من شهر آب. دور، ما هيته الاساسية تكذيب الواقع وإفراغ النصر من مضمونه ووهجه اللذين طاولا العالمين العربي والاسلامي معاً. وبما أنه دور كبير بل كبير جداً، كان لا بد من زخم فائق للقيام به، فتعددت المواقع وتتالت ومن ثم وجدت في كل وسائل الإعلام المنحازة والمأجورة. وأقول مأجورة لأنني سمعت من بعض الذين يتحفوننا بآراهم «الثقافية» وإطلالاتهم التلفزيونية، أنهم لا ينشرون مقالة من دون أن يقبضوا سعرها، ولا يطلّون على التلفزيون الا بشرط المكافأة المادية. والوسيلة التي تدفع لهؤلاء، لا بد من أن تكون هي بدورها تقبض سعر البحث عنهم من مصادر توجهها كي تروج لآرائها ومواقفها السياسية. وبما اننا نعيش اليوم عصر التسليع، تسليع كل البضائع ومنها «الثقافية» بالتحديد، التي يعتقدون أنها توازي، بمفعولها، القنابل العنقودية الصهيو ــ أميركية، فإن سعر «المثقف» يرتفع أو يهبط ايضاً وفقاً لأهمية الدور الذي يؤديه (كل القضية عرض وطلب اي تجارة). ويعلو السعر ويهبط ايضاً وفقاً لموقع من يؤدي الدور المطلوب. فالـ «مثقف» أستاذ الجامعة له سعر، والصحافي، والمحلل السياسي له سعر، ومُعدّ البرامج التليفزيونية له سعر والسياسي له سعر، كما، أخيراً، صاحب العمامة له سعر. أكتفي بهذه المواقع الخسمة لأن متابعتي للصحف والتليفزيون لم تظهر لي مواقع اخرى ربما هي قائمة لكنها لم تجذب انتباهي. يطل علينا المثقف، أستاذ الجامعة ويستفيض بعرض أفكاره الموجهة لكي تصب في ضرورة المحافظة على الدولة، وفي نهاية التحليل يستنتج أن الدولة هي السلطة الحاكمة الآن في لبنان، وأن المواطن الحقيقي هو الذي يخضع ويسلّم اموره لهذه الدولة التي، لشدة حرصها على السيادة والاستقلال لا تبخل في تسليم كل مقوماتها، وبخاصة الامنية منها الى القوى والجيوش الاجنبية الوافدة إلينا من كل أقطار العالم لكي تدافع عن وجود الكيان الصهيوني. أما الصحافيون والمحللون للسياسة، فقد غزوا، لكثرتهم، الشاشات ليقولوا، مرتكزين على الاحداث التي يختارونها، قولاً واحداً يلتقي مع قول المثقف، فتبدأ الجوقة بالتكوّن. لكنها تبقى ناقصة إذا لم ينجح معدّ البرامج في اختيارهم دون سواهم للترويج لمنطق السلطة الحاكمة. وتبدأ الصورة تكتمل حين يطل علينا السياسيون المنضوون في تيارات السلطة ليقنعوا المشاهد، بمحاولة فاشلة، بأن ما يقولونه هو قناعاتهم لا صوت معلميهم من الداخل ومن الخارج معاً. وتتوج الجوقة حين تظهر العمامة، وللعمامة وقار إذ ينطق صاحبها بكل هدوء كأنه يقول الكلمة الفصل المحاطة بهالة الحقيقة كما هو رأسه محاط بقدسية العمامة، فيأتي كلامه إقفالاً للحلقة الخماسية. وهكذا نرى كيف أن الدور يبقى واحداً على الرغم من تعدد المواقع.
رب سائل من احد هذا المواقع يقول بانفعال: ألا يجذب انتباهك المدافعون عن النصر «المتوهم» من مثقفين ومحللين وسياسيين ومعدي برامج تليفزيونية وأصحاب عمائم؟ أقول بلى، كل هؤلاء يجذبون انتباهي، لكن فاتك ايها السائل، أن إثبات الثابت (والثابت هنا بمعنى الثابت العيني لا بمعنى الثابت والمتحول) ليس دوراً مسرحياً كما تكذيبه، ان اصعب الامور هو إثبات البداهة، ولهذا السبب من يحاول ذلك لا يكون مأجوراً بل منتمياً، بينما من ينكر الثابت ويرفض البداهة، لا بد من ان يلبس قناعاً هو ما يسميه اليونان «برسونا» الذي يختبئون وراءه لتأدية الدور، وترتفع كلفة تصنيع القناع وفقاً لجودته، وجودته تقوم على قدرته على استيعاب من يلبسه بحيث يصبح هو وجهه الحقيقي، فيختلط الوجه بالقناع ويتلاشى ويتفتت الشخص ويندمج الموقع بالدور. هكذا تنتفي الشخصية وراء الصورة فيتمسك بها صاحبها لأن فقدانها يظهر حقيقة شخصيته الفارغة الجاهزة للامتلاء بشتى التشكّلات وفقاً لطموحاته الوصولية.
*استاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية