روجيه نبعة *
«حرب لبنان أهم من لبنان»، جورج بوش، خطاب ألقاه في ميامي، 31 تموز 2006.
صبيحة يوم الأربعاء 12 تموز، أعلن حزب الله عند الساعة الحادية عشرة والنصف تقريباً، عن أسر جنديين إسرائيليين في عملية توغل نفذها على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية (الخط الأزرق)، وقد أدّت هذه العملية أيضاً إلى مقتل 8 جنود إسرائيليين. وفي اليوم عينه، وفي الساعات الأولى من بعد الظهر، عند الساعة الواحدة والنصف تقريباً، عقد رئيس الوزراء الإسرائيلي مؤتمراً صحافياً وصف فيه هجوم حزب الله بـ«العمل الحربي» وحمّل مسؤوليته للحكومة اللبنانية لا لحزب الله: «ما جرى هو عمل من أعمال الحرب من جانب دولة لبنان ضد دولة إسرائيل وعلى أرض تخضع لسيادتها». وفي مسعى لإعطاء الحادث بعداً إقليمياً، أضاف أولمرت: «ان الحكومة اللبنانية، وحزب الله جزء لا يتجزأ منها، تسعى لزعزعة الاستقرار الإقليمي. لبنان مسؤول، وعليه تحمّل عواقب أفعاله». وبسبب خطورة الوضع، دعا أولمرت إلى اجتماع طارئ بعد ظهر ذلك اليوم من أجل «دراسة رد الجيش الإسرائيلي الذي سيكون رداً مؤلماً وضخماً للغاية». أما وزير الدفاع الإسرائيلي عمير بيرتس فقد أعلن عند خروجه من مجلس الوزراء أن «إسرائيل تمنح نفسها الحرية الكاملة لاستخدام كل الوسائل التي تراها مناسبة». شمعون بيريز ذهب بالوعيد إلى أقصى الحدود عندما قال: «سنعيد لبنان إلى العصر الحجري، فالمسألة تتعلق بوجود إسرائيل» ووصل إلى مستوى النبوءة حين أضاف «إذا لم نتمكن من هزيمتكم فسندمّركم».
ولكي تقرن إسرائيل الأقوال بالأفعال، استدعى الجيش الإسرائيلي بعد حوالى ساعتين من أسر الجنديين، جنود الاحتياط، وللمرة الأولى منذ تحرير جنوب لبنان قبل 6 سنوات، شنّ هذا الجيش هجوماً برياً وجوياً وبحرياً على لبنان، ودخل الأراضي اللبنانية بالقوة (أو هو بذل جهداً جهيداً للتوغل داخل هذه الأراضي طوال شهر كامل وأكثر)، فدمّر الجسور التي تربط صور بالنبطية، وسوّى بالأرض 4 قرى حدودية. وفي الفترة الممتدة من 12 إلى 15 تموز، عمدت المدرعات والطائرات والبوارج الإسرائيلية الراسية في البحر الأبيض المتوسط إلى قصف المدن الجنوبية والطرقات الرئيسية، كما دمّرت الجسور، وقطعت أوصال المدن الجنوبية وفصلتها عن بعضها البعض وعن العاصمة بيروت. كما ضربت العديد من الأهداف في كافة أرجاء البلد، فنسفت موانئ الصيد الصغيرة وقصفت مطار بيروت الدولي ومرافئ بيروت وجونية وطرابلس. كما طال القصف الإسرائيلي، وللمرة الأولى، المناطق ذات الغالبية المسيحية، لينتهي الأمر بفرض حصار كامل، بحراً وبراً وجواً، على لبنان.
في مواجهة هذا التصعيد العنيف من قبل إسرائيل والولايات المتحدة من ورائها، تركّزت سياسة حزب الله ـ من أجل احتواء الأزمة وحصر تداعياتها بالساحة الثنائية فحسب (حزب الله/ إسرائيل) والقضاء بشكل أو بآخر على «مفاعيلها على النظام» ـ على تهدئة اللعبة، وتسخيف فعل الأسر والتوغل عبر تصويرهما على أنهما مجرد حادث حدودي. كما تعمّد الحزب إظهار تحركاته في سياق من ضبط النفس الواعد والمطمئن في ما يتعلق بمصير الأسيرين: «في صحة جيدة»، «في مكان آمن»، «بعيداً من خط المواجهة» «تتم معاملتهم كأسرى حرب مثلما يفرض الإسلام، لذا فهم لن يصابوا بأذى». كما مارس سياسة ضبط النفس في «الإعلان عن الأسر» إذ لم يأت الإعلان عدائياً، وجاء خالياً من زهو فارغ بالنصر، وكذلك في الإعلان السياسي حين أكد حسن نصر الله ان إطلاق الجنديين أمر ممكن، لكن في إطار «مفاوضات لتبادل الأسرى». وقد تحلّى الرد العسكري على التصعيد الإسرائيلي أيضاً بضبط النفس، إذ لم يستأنف حزب الله إطلاق صواريخه على شمال إسرائيل إلا عشية الهجوم، أي صبيحة الثالث عشر من تموز، ولم تنل حيفا نصيبها من الصواريخ قبل السادس عشر منه.
إن الحرب الإسرائيلية الثانية على لبنان ارتكزت كلياً على فكرة الانقلاب الذي حوّل مجرد حادث سخيف على الحدود إلى ذريعة لشن حرب شاملة، فتحت أبواب الجحيم على لبنان. ويبقى أن نعرف أسباب هذا الانقلاب وكيف حصل.
الشرق الأوسط الكبير/ الشرق الأدنى الجديد أو الشرق المؤمرك
لم يكن منتظراً أن يخسر حزب الله الذي كان يراهن على واقع أن الساحات الإقليمية مفككة ولا روابط بين النزاعات في الشرق الأوسط/ الأدنى، كذلك لم يكن متوقعاً أن تنتصر إسرائيل والولايات المتحدة اللتان كانتا تعوّلان على الصلات القائمة بين هذه النزاعات. ولكن الاتجاه العام، الذي ثبت تاريخياً طوال الفترة الممتدة من 1948 إلى 1973، لا يشير إلى وجود أية روابط بين الأزمات الإقليمية. بالطبع كانت هناك محاولة من عبد الناصر لإيجاد صلات بين الأزمات الإقليمية خلال المغامرة اليمنية (1962ـ 1967)، لكنه فشل ولم يحاول أحد من بعده أن يعيد الكرّة. وحتى ذلك الوقت، كان للأزمات والنزاعات في المنطقة أسبابها الخاصة ومنطقها الخاص ولاعبوها الإقليميون المختلفون. والمحاولة الناجحة الأولى في صهر الأزمات والنزاعات في المنطقة تعود إلى حرب تشرين عام 1973 عندما تم الدمج بين الساحة الفلسطينية، مسرح الحرب الحقيقية، والساحة الخليجية حيث «حرب البترول». لكن هذا المنحى ظل استثنائياً ووحيداً، إذ لم يتكرّر أبداً. ولم تتحوّل الروابط بين النزاعات والأزمات الإقليمية إلى قاعدة إلّا منذ عام 2003 بسبب الغزو الأميركي للعراق، وتنصيب أميركا نفسها لاعباً إقليمياً. البترول وحماية الاقتصاد العالمي.. إسرائيل والحروب الإقليمية.. لطالما كان الشرق الأدنى/ الأوسط نقطة ارتكاز السياسة الخارجية للولايات المتحدة التي أرادت بسط نفوذها على هذه المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد شكل تفكيك الاتحاد السوفياتي وانهيار الثنائية القطبية العالمية فرصة مناسبة جداً لأميركا كي تحقق حلمها على الصعيد العالمي حيث لم يعد هناك منافس. كما سمحت حرب الخليج التي تعرف باسم حرب «تحرير الكويت» لأميركا بالتمركز عسكرياً في منطقة الخليج، وإعادة نشر قواتها وقواعدها إلى جانب توقيع اتفاقات تعاون وإقرار معاهدات أمنية. وفي أعقاب هذه الحرب، تمركزت «الحماية» الأميركية في منطقة الخليج. وما كان من أحداث 11 أيلول واحتلال العراق وإخضاعه لوصاية الولايات المتحدة التي باتت موجودة في قلب الشرق الأوسط والأدنى إلّا أن جعلت من واشنطن لاعباً إقليمياً من الصف الأول، ما قد يسمح لها بإنجاز مشروع فرض سيطرتها على منطقة الشرق الأوسط بأسرها. ولكن لم يكن لهذه التطورات من دون أن تحدث تحولاً في النظام الإقليمي باتجاه أمركته، فقد باتت العلاقة مع أميركا، أي القوة العظمى الدولية والإقليمية، مفتاحاً رئيسياً يحدّد التوجهات السياسية لدول المنطقة التي أصبحت مضطرة لـ«اختيار المعسكر الذي تنتمي إليه: مع الإرهاب أو ضده». وهكذا أيضاً، أصبح النضال ضد أنظمة الهيمنة الإقليمية ـ سواء من أجل إزالتها أو إبعادها أو إجبارها على إجراء تغييرات في النظام أو في الأداء السياسي.. ـ يندرج ضمن مشروع أمركة العلاقات الإقليمية، في حين أصبح هذا النضال هو العنصر الأساسي في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط/ الأدنى.
لكن هذه السياسة عينها التي تستمد قوتها من النزعة إلى الهيمنة الكاملة ـ بما يتعارض بالتالي مع حالة التردّد في تحقيق الغلبة على المستوى الإقليمي ـ تجعل من إقامة الصلات بين أزمات المنطقة أمراً ضرورياً لأن الولايات المتحدة التي قد تجد في أية أزمة محلية عائقاً أمام تحقيق رغباتها في الهيمنة، ستتعامل معها على أساس «مفاعيلها على النظام» لا بناء على «تداعياتها المحلية أو الثنائية».
هذه هي حقيقة ما حصل في الحرب الثانية على لبنان (تموز 2006).
(حلقة ثانية وأخيرة غداً)
* فيلسوف وكاتب